الموسوعة الحديثية


- أنَّ ولِيدَةً كَانَتْ سَوْدَاءَ لِحَيٍّ مِنَ العَرَبِ، فأعْتَقُوهَا، فَكَانَتْ معهُمْ، قالَتْ: فَخَرَجَتْ صَبِيَّةٌ لهمْ عَلَيْهَا وِشَاحٌ أحْمَرُ مِن سُيُورٍ، قالَتْ: فَوَضَعَتْهُ - أوْ وقَعَ منها - فَمَرَّتْ به حُدَيَّاةٌ وهو مُلْقًى، فَحَسِبَتْهُ لَحْمًا فَخَطِفَتْهُ، قالَتْ: فَالْتَمَسُوهُ، فَلَمْ يَجِدُوهُ، قالَتْ: فَاتَّهَمُونِي به، قالَتْ: فَطَفِقُوا يُفَتِّشُونَ حتَّى فَتَّشُوا قُبُلَهَا، قالَتْ: واللَّهِ إنِّي لَقَائِمَةٌ معهُمْ، إذْ مَرَّتِ الحُدَيَّاةُ فألْقَتْهُ، قالَتْ: فَوَقَعَ بيْنَهُمْ، قالَتْ: فَقُلتُ هذا الذي اتَّهَمْتُمُونِي به، زَعَمْتُمْ وأَنَا منه بَرِيئَةٌ، وهو ذَا هُوَ، قالَتْ: فَجَاءَتْ إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فأسْلَمَتْ، قالَتْ عَائِشَةُ: فَكانَ لَهَا خِبَاءٌ في المَسْجِدِ - أوْ حِفْشٌ - قالَتْ: فَكَانَتْ تَأْتِينِي فَتَحَدَّثُ عِندِي، قالَتْ: فلا تَجْلِسُ عِندِي مَجْلِسًا، إلَّا قالَتْ: وَيَومَ الوِشَاحِ مِن أعَاجِيبِ رَبِّنَا... ألَا إنَّه مِن بَلْدَةِ الكُفْرِ أنْجَانِي قالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلتُ لَهَا ما شَأْنُكِ، لا تَقْعُدِينَ مَعِي مَقْعَدًا إلَّا قُلْتِ هذا؟ قالَتْ: فَحَدَّثَتْنِي بهذا الحَديثِ.
الراوي : عائشة أم المؤمنين | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح البخاري | الصفحة أو الرقم : 439 | خلاصة حكم المحدث : [صحيح]
ربُّنا سُبحانَه وتعالى رحيمٌ بعِبادِه، وخاصَّةً الضُّعفاءَ والمظلومينَ منهم؛ فإنَّه سُبحانَه يَنصُرُهم على مَن ظلَمَهم، ويُظهِرُ الحقَّ عاجِلًا أو آجِلًا.وفي هذا الحديثِ تَحكي أمُّ المؤمنينَ عائِشةُ رَضيَ اللهُ عنها أنَّه كان لحيٍّ ولقَبيلةٍ عربيَّةٍ أَمَةٌ سَوداءُ مَملوكةٌ لهم، فأَعْتَقوها وحرَّرُوها مِن الرِّقِّ، ولكنَّها ظَلَّتْ معهم في قَبيلتِهم، فحكَتْ هذه الأَمَةُ أنَّ صَبيَّةً مِن القَبيلةِ خَرَجَتْ وعليها وِشاحٌ أحمَرُ مِن سُيورٍ، جمْع سَيْرٍ، وهو ما يُقطَعُ مِن الجِلدِ، والوِشاحُ نوعٌ مِن الزِّينةِ، وهو خَيْطانِ مِنْ لُؤلؤٍ يُخالَفُ بيْنَهما وتتَوَشَّحُ به المرأةُ، وقيل: يُنسَجُ عريضًا مِن أديمٍ ويُرَصَّعُ باللُّؤلؤِ وتَشُدُّه المرأةُ بيْنَ عاتِقِها وكَشْحِها، فسقَطَ الوِشاحُ مِن هذه الصَّبِيَّةِ، فجاءَتْ حُدَيَّاةٌ؛ وهو طائِرٌ معروفٌ مُؤْذٍ، مأذونٌ في قَتْلِه في الحِلِّ والحَرَمِ، فأخَذَتِ الحُديَّاةُ الوِشاحَ وخطَفَتْه، تَحْسَبُه لحمًا، فبَحَثوا عن هذا الوِشاحِ وطَلَبُوه، وسَأَلوا عنه، فلمْ يَجِدُوه، فاتَّهَموا تلك الأَمَةَ بأنَّها سَرَقَتْه، فجَعَلوا يُفَتِّشونها حتَّى فَتَّشُوا مَوضِعَ عَوْرتِها، ولكنَّ اللهَ سُبحانَه أظهَر بَراءةَ هذه الأَمَةِ، فبيْنَما هم كذلك وهي قائمةٌ معهم، إذ مَرَّت الحُدَيَّاةُ فَوْقَهم وألْقَتِ الوِشاحَ مِن فَمِها؛ لأنَّها لَمَّا لم تَجِدْه لحمًا أَلْقَتْه فوَقَع بيْنَهم، فقالت لهم الأَمَةُ: هذا الذي اتَّهَمْتُموني به، وزَعَمْتُم أنِّي سَرَقْتُه، وأنا منه بريئةٌ، ثمَّ جاءتْ هذه الأَمَةُ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأسلَمَتْ، فقالت عائشةُ رَضيَ اللهُ عنها: وكان لهذه الأَمَةِ خِباءٌ أو حِفْشٌ في المسجِدِ، وهو البَيتُ الضَّيِّقُ الصَّغيرُ، وكانت تأتي عندَ عائشةَ رَضيَ اللهُ عنها وتتحَدَّثُ عندَها، وكانتْ لا تَجلِسُ معها إلَّا قالتْ هذا البَيتَ مِن الشِّعرِ: «ويَومَ الوِشاحِ مِن أَعاجِيبِ رَبِّنا»، جَمْع أُعجوبةٍ، وهي الأمرُ الغريبُ الفريدُ الحُدوثِ، «أَلَا إنَّه مِن بَلْدةِ الكُفرِ أَنْجاني»، ومعنَى البَيتِ أنَّ الفِتنةَ الَّتي تعرَّضَتْ لها مِن اتِّهامِها وإيذائِها كانت سببًا في إسلامِها وهِجرتِها، وكان الوِشاحُ سببًا في نَجاتِها، وكان يَومُ الوِشاحِ مِن الأعاجيبِ؛ لأنَّ ما وقَع فيه مِنِ اختِطافِ الحِدَأَةِ للوِشاحِ، واتِّهامِها به، كان مِن أعاجيبِ الزَّمانِ، وغرائبِ الأيَّامِ، وكان مِن نِعَمِ اللهِ عليها؛ حيثُ كان نُقطةَ تحَوُّلٍ في حياتِها مِن شقاءٍ إلى سعادةٍ، وسببًا في إسلامِها ونجاتِها، وهِجرتِها مِن دارِ الكفرِ إلى دارِ الإيمانِ، على حدِّ المثَلِ القائلِ: «رُبَّ ضارَّةٍ نافعةٌ». فلمَّا سَألَتْها عائشةُ عن السَّبَبِ، أخبَرَتْها بهذه القِصَّةِ، وظاهِرُ هذا يدُلُّ على أنَّ هذه المرأةَ إنَّما أسْلَمَت بعْدَ قِصَّةِ الوِشاحِ. وفي الحديثِ: أنَّ اللهَ تعالى قد يُفَرِّجُ كُرُباتِ المكروبينَ ويَخرِقُ لهم العوائِدَ، وإنْ كانوا كفَّارًا؛ فإنَّ عَدْلَ اللهِ يَسَعُ المؤمِنَ والكافِرَ، والبَرَّ والفاجِرَ.وفيه: أنَّ مَن لم يَكُنْ له مَسْكَنٌ ولا مكانُ مَبيتٍ يُباحُ له المَبِيتُ في المسجِدِ -سواءٌ كان رَجُلًا أوِ امرأةً- عندَ حصولِ الأمْنِ من الفِتْنةِ.وفيه: فَضْلُ الهِجرةِ مِن دارِ الكُفرِ، وأنَّ السُّنَّةَ الخروجُ مِن بلدةٍ جَرَتْ فيها فِتنةٌ على الإنسانِ.