أحَلَّ اللَّهُ تعالى لعِبادِه البَيعَ والشِّراءَ، وحَرَّمَ عليهمُ الرِّبا، فقال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}
[البقرة: 275] ، ومِن أنواعِ المُعامَلاتِ التي جاءَت بها الشَّريعةُ القِراضُ، وتُسَمَّى مُضارَبةً، مَأخوذةٌ مِنَ الضَّربِ في الأرضِ، لمَّا كان الرِّبحُ يَحصُلُ في الغالِبِ بالسَّفرِ أوِ التَّصَرُّفِ بالمالِ، وهو أن يَتَّفِقَ شَخصانِ يَكونُ على أحَدِهما المالُ، ويَكونُ على الآخَرِ العَمَلُ، بحَيثُ يَتَّجِرُ في ذلك المالِ، ويَكونُ الرِّبحُ بَينَهما حَسَبَ اتِّفاقِهما، وفي هذا الحَديثِ يُخبرُ أسلَمُ العَدويُّ مَولى عُمَرَ، أحَدُ التَّابِعينَ، أنَّ عَبدَ اللهِ وعُبَيدَ اللهِ، ابنَي عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه خَرَجا في جَيشٍ إلى العِراقِ، أي: للغَزوِ في سَبيلِ اللهِ، فلمَّا قَفَلا، أي: رَجَعا مِنَ الغَزوِ مَرَّا على أبي موسى الأشعَريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، وهو أميرُ البَصرةِ بَلدٍ في العِراقِ، فرَحَّب بهما وسَهَّل، أي: قال لهما: مَرحَبًا بكُما وأهلًا وسَهلًا؛ حَيثُ نَزَلتُما عِندي، ثُمَّ قال لهما: لو أقدِرُ لكُما على أمرٍ أنفعُكُما به لفعَلتُ، أي: لو أستَطيعُ أن أنفعَكُما بشَيءٍ لفعَلتُ إكرامًا لكُما ولأبيكُما، ثُمَّ استَدرَكَ فقال: بَلى، هاهنا مالٌ مِن مالِ اللهِ تعالى، أي: مِن أموالِ الغَنائِمِ أوِ الجِزيةِ أو نَحوِ ذلك، وأنا أُريدُ أن أُرسِلَه إلى عُمَرَ أميرِ المُؤمِنينَ، فأُسلِفُكُماه، أي: أُقرِضُكُماه، ولم يُرِدْ بإسلافِهما إحرازَ المالِ في ذِمَّتِهما، وإنَّما أرادَ نَفْعَهما، فتَبتاعانِ به، أي: تَشتَريانِ بهذا المالِ مِن مَتاعِ العِراقِ، ثُمَّ تَبيعانِه بالمَدينةِ، ثُمَّ تُؤَدِّيانِ رَأسَ المالِ الذي كُنتُ أُريدُ بَعثَه إلى أميرِ المُؤمِنينَ، ويَكونُ لكُما الرِّبحُ، أي: والرِّبحُ لكُما، فتَكونان بذلك أدَّيتُما المالَ الذي أُريدُ إرسالَه لعُمَرَ، وفي نَفسِ الوقتِ رَبحتُما. فقال عَبدُ اللَّهِ وعُبَيدُ اللهِ: ودِدْنا، أي: أحبَبنا ذلك، ففعَل أبو موسى ما قال لهما وكَتَبَ إلى عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ أن يَأخُذَ مِنهما المالَ، أي: إذا وصَلا إلى المَدينةِ فيَأخُذُ عُمَرُ مِنهما المالَ فقَط، والرِّبحُ لهما. فلمَّا قَدِما على عُمَرَ وأخبَرَه بما حَصَل وبما فعَلا بالمالِ، قال لهما عُمَرُ: أكُلُّ الجَيشِ أسلَفَه كَما أسلَفَكُما؟! أي: هَل أقرَضَ أبو موسى جَميعَ مَن في الجَيشِ مِثلَما فعَل مَعَكُما، أم أنَّه خَصَّكُما بذلك فقَط؟ فقالا: لا، أي: لم يَفعَلْ ذلك مَعَ كُلِّ الجَيشِ، وفي هذا تَعَقُّبٌ مِن عُمَرَ لفعلِ أبي موسى ونَظَرٌ في تَصحيحِ فِعلِه، وتَبيينٌ لمَوضِعِ المَحظورِ مِنه؛ لأنَّه لا يَخفى على عُمَرَ أنَّ أبا موسى لم يُسلِفْ كُلَّ واحِدٍ مِنَ الجَيشِ مِثلَ ذلك، وإنَّما أرادَ أن يُبَيِّنَ لابنَيه مَوضِعَ المُحاباةِ في فِعلِ أبي موسى، فقال عُمَرُ: ابْنَي أميرِ المُؤمِنينَ فأسلَفَكُما! أي: مُحاباةً، فلم يُسلِفكُما إلَّا لكَونِكُما ابنَيْ أميرِ المُؤمِنينَ، ولو لم تَكونا كذلك لم يَفعَل ذلك مَعَكُما. ثُمَّ قال لهما: أدِّيا المالَ ورِبحَه! أي: سَلِّما جَميعَ المالِ مَعَ الرِّبحِ، ولا شَيءَ لكُما احتياطًا للمُسلمينَ؛ لأنَّ المالَ مالُ المُسلمينَ، فالرِّبحُ لهم، وفي هذا نَقضٌ لفِعلِ أبي موسى وتَغييرٌ لسَلَفِه برَدّ رِبحِ المالِ إلى المُسلمينَ وإجرائِه مَجرى أصلِه. فأمَّا عَبدُ اللَّهِ فسَكَتَ، أي: أنَّه أمسَكَ عنِ المُراجَعةِ بِرًّا بأبيه وانقيادًا له واتِّباعًا لمُرادِه، وأمَّا عُبَيدُ اللهِ فراجَعَه طَلبًا لحَقِّه، واحتَجَّ عليه وقال: ما يَنبَغي لك يا أميرَ المُؤمِنينَ! أي: ليسَ لك أن تَفعَلَ بنا هذا الفِعلَ؛ فإنَّه لو هَلكَ المالُ أو حَصَل له نَقصٌ لضَمِنَّاه، أي: لأنَّه سَلَفٌ، فقال: أدِّياه. أكَّد عليهما في تَأديةِ المالِ، فسَكَتَ عَبدُ اللهِ، وراجَعَه عُبَيدُ اللهِ، أي: ظَلَّ يُراجِعُه في هذا المالِ، فقال رَجُلٌ مِن جُلَساءِ عُمَرَ، يُقالُ: إنَّه عَبدُ الرَّحمَنِ بنُ عَوفٍ، على وجهِ ما رَآه مِنَ المَصلحةِ في ذلك، وإن كان عُمَرُ لم يَسألْه إلَّا أنَّه قد جَرى على عادَتِه وما عُرِف مِن حالِ عُمَرَ واستَشارَتِه أهلَ العِلمِ: يا أميرَ المُؤمِنينَ، لو جَعَلتَه قِراضًا، أي: في حُكمِ المُقارَضةِ، فقال عُمَرُ: قد جَعَلتُه قِراضًا، أي: أعطيتُه حُكمَ القِراضِ على سَبيلِ التَّصويبِ لِما رَآه هذا المُشيرُ، والأخذِ بقَولِه، فأخَذَ عُمَرُ رأسَ المالِ ونِصفَ رِبحِه، أي: جَعَله في مالِ المُسلمينَ، وأخَذَ عُبيدُ اللهِ وعَبدُ اللَّهِ نِصفَ رِبحِ ذلك المالِ. وكَأنَّه جَعَل ذلك قَطعًا للنِّزاعِ؛ إذ ليسَ مِنَ القِراضِ في شَيءٍ، وإنَّما جَوَّز عُمَرُ ذلك؛ لأنَّ عَبدَ اللَّهِ وعُبَيدَ اللَّهِ عَمِلا في المالِ بوَجهِ شُبهةٍ، وعلى وجهٍ يُعتَقَدُ أنَّ فيه الصِّحَّةَ دونَ أن يُبطِلا فيه مَقصودًا لمَن يَملِكُه، فلم يَجُزْ أن يَبطُلَ عليهما عَمَلُهما، فرَدَّهما إلى قِراضِ مِثلِهما، وكان قِراضُ مِثلِهما النِّصفَ، فأخَذَ عُمَرُ النِّصفَ مِنَ الرِّبحِ، وعَبدُ اللَّهِ وعُبَيدُ اللَّهِ النِّصفَ الثَّانيَ.
وفي الحَديثِ مَشروعيَّةُ القِراضِ، وأنَّه كان مَعمولًا به في عَهدِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنه.
وفيه احتِجاجُ الابنِ على الأبِ، وأنَّه ليسَ بعُقوقٍ ولا هَضمٍ مِن حَقِّ الأُبوَّةِ ولا حَقِّ الخِلافةِ.
وفيه مَشروعيَّةُ الاحتِجاجِ حَيثُ لا نَصَّ.
وفيه مَشروعيَّةُ أن يَبتَدِئَ أحَدُ جُلساءِ الإمامِ أوِ العالمِ أوِ المُفتي الحُكمَ بالفتوى إذا عَرَف مِن حالتِه استِشارَتَه.
وفيه ما كان عليه عُمَرُ مِنَ التَّورُّعِ أن يُخَصَّ أحَدٌ مِن أهلِ بَيتِه أو مِمَّن يَنتَمي إليه بمَنفعةٍ من مالِ اللَّهِ لمَكانِه مِنه .