جاءَتِ النُّصوصُ الشَّرعيَّةُ بأهَمِّيَّةِ طَلَبِ العِلمِ والسَّعيِ في تَحصيلِه، وأن يَستَغِلَّ المَرءُ وقتَ شَبابِه ووُجودِ العُلماءِ، فيُقبِلَ عليهم ويَتَعَلَّمَ؛ فالأيَّامُ تَمُرُّ ويَأتي زَمانٌ يَحتاجُ النَّاسُ إلى أولئك الطُّلَّابِ الذينَ دَرَسوا وتَعَلَّموا. وفي هذا الحَديثِ يُخبرُ ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما عن كَيفيَّةِ حِرصِه وتَلقِّيه للعِلمِ، فيَقولُ: لمَّا توُفِّيَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أي: لمَّا ماتَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكان ابنُ عبَّاسٍ قد قارَبَ البُلوغَ، فقال ابنُ عبَّاسٍ لرَجُلٍ مِنَ الأنصارِ: هَلُمَّ نَسألْ أصحابَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أي: تَعالَ بنا نَسألْ ونَتَعَلَّمْ مِن أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم العِلمَ؛ فإنَّهمُ اليَومَ كَثيرٌ، أي: نَستَغِلُّ وقتَ وُجودِهم وكَثرَتَهم قَبلَ أن يَموتوا أو يَتَفرَّقوا. فقال الأنصاريُّ: واعجَبًا لك يا ابنَ عبَّاسٍ، أي: استَنكَرَ وتَعَجَّبَ هذا الكَلامَ مِنِ ابنِ عبَّاسٍ، أتُرى النَّاسَ يَحتاجونَ إليك، أي: فهَل تَظُنُّ يا بنَ عبَّاسٍ أنَّه يَأتي وقتٌ يَحتاجُ النَّاسُ فيه إلى عِلمِك، وفي النَّاسِ مِن أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَن تَرى؟ أي: وأنتَ تَرى كِبارَ الصَّحابةِ وعُلماءَهم. يَقولُ ابنُ عبَّاسٍ: فتَرَكتُ ذلك، أي: لم ألتَفِتْ إلى كَلامِ هذا الأنصاريِّ وقَولِه، وإنَّما أقبَلتُ على المَسألةِ، أي: ذَهَبَ يَسألُ أصحابَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ويَتَعَلَّمُ مِنهم، فإن كان ليَبلُغُني الحَديثُ عنِ الرَّجُلِ، أي: أعرِفُ أنَّ أحَدَ الصَّحابةِ عِندَه حَديثٌ مِن أحاديثِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فآتيه، أي: فأذهَبُ إليه، وهو قائِلٌ، أي: وذلك الصَّحابيُّ نائِمٌ في وقتِ القَيلولةِ، فأتَوسَّدُ رِدائي على بابِه، أي: أجعَلُ ثَوبي وسادةً وأظَلُّ عِندَ بابِ ذلك الصَّحابيِّ أنتَظِرُ مَتى يَستَيقِظُ حتَّى أسألَه، فتسفي الرِّيحُ عليَّ التُّرابَ، أي: تُلقي الرِّيحُ وتَهُبُّ بالتُّرابِ على وَجهِ ابنِ عبَّاسٍ، فيَصبرُ ويَتَحَمَّلُ، فيَخرُجُ، أي: حتَّى يَخرُجَ ذلك الصَّحابيُّ، فيَراني على تلك الحالِ، فيَقولُ: يا ابنَ عَمِّ رَسولِ اللهِ، ألَا أرسَلتَ إليَّ فآتيَك؟ أي: هَلَّا بَعَثتَ إليَّ حتَّى آتيَ إليك في مَنزِلِك ومَكانِك لشَرَفِك وقُربِك مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فنَحنُ أحَقُّ وأولى أن نَأتيَ إليك! فيَقولُ ابنُ عبَّاسٍ: أنا أحَقُّ أن آتيَك فأسألَك، أي: أنَّ طالِبَ العِلمِ وصاحِبَ المَسألةِ هو الذي يَأتي إلى العالمِ ويَقصِدُه، وهذا مِن تَوقيرِ العِلمِ والعُلماءِ. يَقولُ ابنُ عبَّاسٍ: فبَقيَ الرَّجُلُ، أي: طال العُمرُ بذلك الأنصاريِّ الذي عَرَضَ عليه ابنُ عبَّاسٍ أن يَطلُبَ العِلمَ مَعَه، حتَّى رَآني وقدِ اجتَمَعَ النَّاسُ عليَّ، أي: حتَّى مَرَّتِ الأيَّامُ وأصبَحَ ابنُ عبَّاسٍ عالِمًا مِن كِبارِ عُلماءِ الصَّحابةِ ومَرجِعًا للنَّاسِ، والنَّاسُ يَجتَمِعونَ حَولَه يَطلُبونَ مِنه العِلمَ، بَعدَ مَوتِ أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم واحتياجِ النَّاسِ إلى عِلمِ ابنِ عبَّاسٍ. فقال الرَّجُلُ الأنصاريُّ: هذا الفتى أعقَلُ مِنِّي! أي: قد كان ابنُ عبَّاسٍ ذا عَقلٍ وفهمٍ حينَ أقبَلَ على طَلَبِ العِلمِ؛ فقد جاءَ الوقتُ الذي يَحتاجُ النَّاسُ إليه، وظَهر بذلك فَضلُه ومَكانتُه.
وفي الحَديثِ أهَمِّيَّةُ الحِرصِ على طَلَبِ العِلمِ.
وفيه بَيانُ حِرصِ ابنِ عبَّاسٍ على طَلَبِ العِلمِ مُنذُ صِغَرِه.
وفيه عَدَمُ الالتِفاتِ للمُخَذِّلين وسَماعِ كَلامِهم.
وفيه مِن أدَبِ طالِبِ العِلمِ ذَهابُه إلى العُلماءِ.
وفيه الصَّبرُ على طَلَبِ العِلمِ.
وفيه فَضلُ ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما.
وفيه بَيانُ ما أوتيَ ابنُ عبَّاسٍ مِنَ العِلمِ .