بَيَّنَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أحكامَ الرَّضاعِ، ومِن ذلك أنَّه لا بُدَّ أن يَكونَ الرَّضاعُ في الحَولينِ؛ ولذا فإنَّ رَضاعَ الكَبيرِ لا يُعتَبَرُ ولا تَحصُلُ به الحُرمةُ بَينَ المُرضِعةِ ومَن رَضَعَ مِنها. وفي هذا الحَديثِ يُخبرُ يَحيى بنُ سَعيدٍ، وهو أحَدُ التَّابِعينَ، أنَّ أبا موسى رَضِيَ اللهُ عنه قال في رَضاعةِ الكَبيرِ: ما أُراها إلَّا تَحرُمُ، أي: أنَّ رَضاعَ الكَبيرِ تَحصُلُ به الحُرمةُ بَينَ الرَّضيعِ وبَينَ مَن رَضَعَ مِنها. وقد جاءَ أنَّ لهذا الحَديثِ قِصَّةً، وهو أنَّ رَجُلًا جاءَ إلى أبي موسى، فقال له: إنَّ امرَأتي وَرِمَ ثَديُها فمَصَصتُه، فدَخل حَلقي شَيءٌ سَبَقَني، أي: انتَفخَ واحتَبَسَ اللَّبَنُ في ثَديِ المَرأةِ، فقامَ الرَّجُلُ بمَصِّ ثَديِ زَوجَتِه حتَّى يُخَفِّفَ مِن وَرَمِ الثَّديِ، وأثناءَ المَصِّ دَخَل إلى حَلقِه شَيءٌ مِنَ اللَّبَنِ مِن دونِ قَصدٍ مِنه. فشَدَّدَ عليه أبو موسى وأفتاه بأنَّه قد حَرُمَت عليه. فذَهَبَ الرَّجُلُ إلى عَبدِ اللَّهِ بنِ مَسعودٍ وأخبَرَه بما أفتاه أبو موسى، فقال ابنُ مَسعودٍ لأبي موسى: أبصِرْ ما تُفتي به الرَّجُلَ، أي: تَأمَّلْ يا أبا موسى في فتواك للرَّجُلِ، ولا تَستَعجِلِ الحُكمَ وتُحَرِّمْ زَوجَتَه عليه وقد رَضَعَ مِنها وهو كَبيرٌ، فقال أبو موسى: فما تَقولُ أنت؟ أي: فما قَولُك يا ابنَ مَسعودٍ في ذلك؟ فقال ابنُ مَسعودٍ: لا رَضاعةَ إلَّا ما كان في الحَولَينِ، أي: أنَّ الرَّضاعَ الذي يَثبُتُ به التَّحريمُ هو ما كان عُمرُ الطِّفلِ فيه عامَينِ فأقَلَّ. فعِندَ ذلك قال أبو موسى: لا تَسألوني عن شَيءٍ ما كان هذا الحَبرُ، أي: العالمُ، بَينَ أظهُرِكُم، أي: بَينَكُم. وفي رِوايةٍ أنَّ أبا موسى رَجَعَ إلى قَولِ ابنِ مَسعودٍ في هذه المَسألةِ.
وفي الحَديثِ أنَّ رَضاعَ الكَبيرِ لا يُعتَبَرُ رَضاعًا تَحصُلُ به المَحرَميَّةُ.
وفيه مَشروعيَّةُ سُؤالِ أكثَرَ مِن عالمٍ في المَسألةِ إن أشكَل عليه شَيءٌ.
وفيه بَيانُ عِلمِ ابنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه.
وفيه رُجوعُ العالمِ فيما أفتى به إذا تَبَيَّنَ له الحَقُّ.
وفيه تَواضُعُ أبي موسى رَضِيَ اللهُ عنه ورُجوعُه إلى الحَقِّ.
وفيه إقرارُ أبي موسى رَضِيَ اللهُ عنه بفَضلِ ابنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه وعِلمِه، وقَصرُ النَّاسِ على سُؤالِه لِما اعتَقدَ مِن تَفوُّقِه في العِلمِ عليه.
وفيه بَيانُ اختِلافِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم ورَدِّ بَعضِهم على بَعضٍ .