اشتَمَلتِ الشَّريعةُ الإسلاميَّةُ على كُلِّ ما يَحتاجُه المُسلمُ في أمر دينِه ودُنياه، فهذه الشَّريعةُ فيها أحكامُ العَقائِدِ، وأحكامُ العِباداتِ، وأحكامُ المُعامَلاتِ والجِناياتِ والعُقوباتِ، ومِنَ الأحكامِ المُتَعَلِّقةِ بالعُقوباتِ: أنَّ الجانيَ لا يُقامُ عليه الحَدُّ إلَّا إذا تَوفَّرَت فيه الشُّروطُ وانتَفتِ المَوانِعُ، ومِن ذلك أن يَكونَ عاقِلًا؛ فالمَجنونُ لا يُقامُ عليه الحَدُّ لعَدَمِ التَّكليفِ، ففي الحَديثِ: رُفِعَ القَلَمُ عن ثَلاثةٍ، ومِنهم: وعنِ المَجنونِ حتَّى يُفيقَ. وفي هذا الحَديثِ يُخبرُ عَبدُ اللَّهِ بنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّه أُتيَ عَمَرُ بمَجنونةٍ قد زَنَت، أي: جيءَ إلى عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه بامرَأةٍ مَجنونةٍ قد وقَعَت في جَريمةِ الزِّنا، فاستَشارَ فيها أُناسًا، أي: طَلَب عُمَرُ رضِيَ اللهُ عنه مَشورةَ النَّاسِ عن عُقوبةِ هذه المَجنونةِ: هَل تُرجَمُ أم لا؟ فأمر بها عُمَرُ رضِيَ اللهُ عنه أن تُرجَمَ، أي: استَقَرَّ رَأيُه بَعدَ المَشورةِ أن تُرجَمَ هذه المَجنونةُ حتَّى تَموتَ. فمَرَّ بها عليُّ بنُ أبي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أي: مَرَّ عليٌّ بهذه المَجنونةِ وهم يُريدونَ رَجمَها، فقال: ما شَأنُ هذه؟ أي: ما حالُها وماذا تُريدونَ مِنها؟ فقالوا له: مَجنونةُ بَني فُلانٍ زَنَت، فأمَر بها عُمَرُ رضِيَ اللهُ عنه أن تُرجَمَ، أي: أخبَروه بأنَّها مَجنونةٌ وقد زَنَت، فأمر أميرُ المُؤمِنينَ برَجمِها. فقال لهم عليٌّ: ارجِعوا بها، أي: لا تَرجُموها وارجِعوا بها إلى أن أُراجِعَ عُمَرَ. ثُمَّ أتاه، أي: ذَهَبَ عليٌّ إلى عُمَرَ ودَخَل عليه وقال له: يا أميرَ المُؤمِنينَ، أمَا عَلِمتَ أنَّ القَلمَ، أي: قَلَمَ التَّكليفِ والمُؤاخَذةِ، رُفِعَ عن ثَلاثةٍ، أي: عَمَّنِ اتَّصَف بإحدى هذه الخِصالِ الثَّلاثِ: عنِ المَجنونِ حتَّى يَبرَأَ، أي: يَعقِلَ ويشفى مِن جُنونِه، وعنِ النَّائِمِ حتَّى يَستَيقِظَ، أي: حتَّى يَقومَ مِن نَومِه، وعنِ الصَّبيِّ حتَّى يَعقِلَ، أي: يَصيرَ ذا عَقلٍ، والمُرادُ مِنه البُلوغُ. فقال عُمَرُ: بَلى، أي: أعرِفُ ذلك. فقال عليٌّ: فما بالُ هذه تُرجَمُ؟ أي: فلماذا تُريدُ رَجمَ هذه المَرأةِ المَجنونةِ التي زَنَت؟ فقال عُمَرُ: لا شَيءَ، أي: ليسَ عليها الآنَ شَيءٌ، فتَغَيَّر اجتِهادُه مِن كَونِه يَرجُمُها إلى كَونِه لا يَرجُمُها. فقال له عليٌّ: فأرسِلْها، أي: فخَلِّها واترُكْها إذَنْ. فأرسَلها، أي: تَرَكَها عُمَرُ ولم يُقِمْ عليها الحَدَّ، ورَجَعَ عَمَّا كان أمَر به، لمَّا تَبَيَّنَ له الصَّوابُ. فجَعَل يُكَبِّرُ، أي: أنَّ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنه صارَ يَقولُ: اللهُ أكبَرُ، وعادةُ العَرَبِ أنَّهم يُكَبِّرونَ على أمرٍ عَظيمٍ وشَأنٍ فَخيمٍ، وكان عُمَرُ رضِيَ اللهُ عنه عَلِمَ عَدَمَ صَوابِ رَأيِه، وظَنَّ على نَفسِه وُقوعَ الخَطَأِ برَجمِ المَرأةِ المَجنونةِ إن لم يُراجِعْه عليُّ بنُ أبي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أو أنَّه كَبَّرَ تَعجُّبًا مِن غَفلتِه في الحُكمِ بالرَّجمِ. ويُحتَمَلُ أنَّ عليًّا هو الذي صارَ يُكَبِّرُ على الهدايةِ والتَّوفيقِ إلى الصَّوابِ. ولم يَأمُرْ عُمَرُ رضِيَ اللهُ عنه برَجمِ مَجنونةٍ مُطبِقٍ عليها الجُنونُ، ولا يَجوزُ أن يَخفى هذا عليه ولا على أحَدٍ مِمَّن بحَضرَتِه، ولكِن لعَلَّ هذه امرَأةٌ كانت تُجَنُّ مَرَّةً وتُفيقُ أُخرى، فرَأى عُمَرُ رضِيَ اللهُ عنه ألَّا يَسقُطَ عنها الحَدُّ لِما يُصيبُها مِنَ الجُنونِ إذ كان الزِّنا مِنها في حالِ الإفاقةِ، ورَأى عليٌّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ الجُنونَ شُبهةٌ يُدرَأُ بها الحَدُّ عَمَّن يُبتَلى به، والحُدودُ تُدرَأُ بالشُّبُهاتِ.
وفي الحَديثِ مَشروعيَّةُ مُشاوَرةِ أهلِ الفِقهِ والعِلمِ فيما يَحدُثُ مِنَ الوقائِعِ قَبلَ الحُكمِ.
وفيه بَيانُ أنَّ التَّكليفَ لا يَكونُ إلَّا للبالغِ العاقِل الصَّاحي.
وفيه مُراجَعةُ الإمامِ في الأحكامِ التي يَتَّخِذُها.
وفيه تَواضُعُ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنه ورُجوعُه إلى الحَقِّ.
وفيه بَيانُ عِلمِ وفِقهِ عَليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه.
وفيه ما كان عليه عليٌّ رَضِيَ اللهُ عنه مِنَ الرِّضا بوِلايةِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنه ومُخاطَبَتِه له بإمرةِ المُؤمِنينَ .