كان الصَّحابةُ رَضِيَ اللهُ عنهم مِن أعظَمِ النَّاسِ خَشيةً للهِ تعالى وتَعظيمًا له، وكانوا -مَعَ شِدَّةِ إيمانِهم وعِبادَتِهم وطاعَتِهم للهِ- على خَوفٍ شَديدٍ مِنَ اللهِ تعالى؛ وذلك لعَدَمِ مَعرِفتِهم بمَصيرِهمُ الأُخرَويِّ: هَل هم مِن أهلِ الجَنَّةِ أم مِن أهلِ النَّارِ؛ ولهذا لمَّا مَرِضَ أبو عَبدِ اللهِ -وهو رَجُلٌ مِن أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وجَهالةُ الصَّحابيِّ لا تَضُرُّ؛ فكُلُّهم عُدولٌ- جاءَ أصحابُه يَعودونَه، أي: يَزورنَه، فبَكى أبو عَبدِ اللَّهِ، فقالوا له: ما يُبكيك يا أبا عَبدِ اللَّهِ؟ أيُّ شَيءٍ جَعَلَك باكيًا، وما السَّبَبُ، والباعِثُ لبُكائِك؟ ثُمَّ ذَكَروا له بَعضَ فضائِلِه تَسليةً له، فقالوا: ألَم يَقُلْ لك رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: خُذْ مِن شارِبِك. الشَّارِبُ: هو الشَّعرُ النَّابِتُ فوقَ الشَّفةِ العُليا، أي: قُصَّ مِن شارِبِك، ثُمَّ أقِرَّه، أي: أثبِتْه وأدِمْه أو داوِمْ على قَصِّ شارِبِك، حتَّى تَلقاني؟ أي: بَعدَ البَعثِ، وفي رِوايةٍ: ثُمَّ اصبِرْ حتَّى تَلقاني. والمَعنى: كَيف تَبكي وقد بُشِّرتَ بلِقاءِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ووعَدَك بأنَّك تَلقاه لا مَحالةَ، ومَن لقيَه راضيًا عَنه مِثلَك لا خَوفٌ عليه؟! فقال لهم أبو عَبدِ اللَّهِ: بَلى، أي: أخبَرَني بذلك رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولكِنِّي سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ قَبَضَ قَبضةً بيَمينِه. القَبضُ: الأخذُ بجَميعِ الكَفِّ، أي: أخَذَ قَبضةً مِنَ الخَلقِ بيَمينِه، وقال: هذه -أي: مَن في هذه القَبضةِ- لهذه، أي: للجَنَّةِ. ولا أُبالي. المُبالاةُ: هيَ التَّحقيرُ وعَدَمُ الِالتِفاتِ إلى أحَدٍ، وعَدَمُ الخَوفِ مِن أحَدٍ، أي: لا أكتَرِثُ بهم ولا أخافُ مِن أحَدٍ، وقَبَضَ قَبضةً أخرى بيَدِه الأُخرى. ولم يَقُلْ بيَسارِه؛ أدَبًا، أي: قَبضةً مِنَ الخَلقِ آخَرينَ، فقال: هذه -أي: هذه القَبضةُ الثَّانيةُ- لهذه، أي: للنَّارِ، ولا أُبالي، أي: لا أكتَرِثُ بهم ولا أخافُ مِن أحَدٍ، فلا أدري في أيِّ القَبضَتَينِ أنا، أي: أجابَهم بأنَّه يَخافُ مِن عَدَمِ الِاكتِراثِ به في قَولِه: ولا أبالي، فلا يَتِمُّ شَرطُ البِشارةِ مِنِّي إلَّا إذا كُنتُ في قَبضةِ الجَنَّةِ، فغَلَبَ عليَّ الخَوفُ بالنَّظَرِ إلى عَظَمَتِه وجَلالِه بحَيثُ مَنَعَني عَنِ التَّأَمُّلِ في رَحمَتِه وجَمالِه؛ فإنَّه تعالى لذاتِه وعَدَمِ مُبالاتِه له أن يَفعَلَ ما يُريدُ، ولا يَجِبُ عليه شَيءٌ للعَبيدِ، وأيضًا لغَلَبةِ الخَوفِ قد يَنسى البِشارةَ والرَّجاءَ بها، مَعَ أنَّ البِشارةَ مُقَيَّدةٌ بالثَّباتِ والدَّوامِ والإقامةِ على طَريقِ السُّنَّةِ والِاستِقامةِ.
وفي الحَديثِ مَشروعيَّةُ زيارةِ المَريضِ.
وفيه ما كان عليه الصَّحابةُ رَضِيَ اللهُ عنهم مِن شِدَّةِ خَوفِهم مِنَ اللهِ تعالى.
وفيه مَشروعيَّةُ تَسليةِ المَريضِ بما له مِنَ الفضائِلِ حتَّى يُخَفَّفَ عَنه ما هو فيه مِنَ الخَوفِ في مَرَضِه.
وفيه أنَّ اللَّهَ قد قدَّرَ وعَلِم أهلَ الجَنَّةِ مِن أهلِ النَّارِ.
وفيه الخَوفُ الشَّديدُ لجَهلِ الإنسانِ ما يَكونُ مَصيرُه.
وفيه إثباتُ صِفةِ اليَدِ للهِ تعالى كَما يَليقُ بجَلالِه وعَظَمَتِه ويَختَصُّ به.
وفيه مَشروعيَّةُ قَصِّ الشَّارِبِ، وأنَّ المُداومةَ عليه موصِلةٌ إلى المَراتِبِ العاليةِ .