مِن أركانِ الإيمانِ: الإيمانُ باليَومِ الآخِرِ، وذلك يَتَضَمَّنُ الإيمانَ بما يَكونُ في ذلك اليَومِ مِنَ الأهوالِ والأحوالِ والمَواقِفِ العِظامِ، وإنَّ مِنَ الأُمورِ المُتَعَلِّقةِ باليَومِ الآخِرِ: إثباتَ الشَّفاعةِ، وهيَ على أنواعٍ، وأعظَمُها شَفاعةُ نَبيِّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في فَصلِ القَضاءِ بَينَ الخَلقِ، ومِن أنواعِ الشَّفاعةِ شَفاعةُ المُؤمِنينَ في إخراجِ أقوامٍ مِنَ النَّارِ خَلَطوا عَمَلًا صالِحًا وآخَرَ سَيِّئًا، ومَن في قَلبِه مِثقالُ ذَرَّةٍ مِن إيمانٍ، ومِمَّا جاءَ في ذلك أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: والذي نَفسي بيَدِه، ما أحَدُكُم بأشَدَّ مُناشَدةً، أي: مُطالَبةً في الحَقِّ يَراه مُصيبًا له، مِنَ المُؤمِنينَ في إخوانِهم إذا رَأوا أنْ قد خَلَصوا، أي: نَجَوا وأُبعِدوا مِنَ النَّارِ. والمَعنى: إذا خَلَّصَ اللَّهُ سُبحانَه وتعالى المُؤمِنينَ ونَجَّاهم مِنَ النَّارِ وأمِنوا على أنفُسِهم مِن دُخولِها، فليست مُطالَبةُ أحَدِكُم في الدُّنيا لغَريمِه بالحَقِّ الذي كان له عليه أشَدَّ مُطالَبةً مِن مُطالَبةِ المُؤمِنينَ لرَبِّهم وسُؤالِهم إيَّاه يَومَ القيامةِ في شُؤونِ إخوانِهم، فيُناشِدونَ اللَّهَ سُبحانَه وتعالى أن يُخرِجَ إخوانَهم مِنَ النَّارِ، فيَدخُلوا مَعَهمُ الجَنَّةَ، يَقولونَ: أيْ رَبَّنا، أي: يَقولُ المُؤمِنونَ: نَسألُك يا رَبِّ ونَشفَعُ عِندَك في إخوانِنا كانوا يُصَلُّونَ مَعنا، ويَصومونَ مَعنا، ويَحُجُّونَ مَعنا، ويُجاهِدونَ مَعنا، أي: كانوا يَفعَلونَ هذه العِباداتِ في الدُّنيا كما كُنَّا نَفعَلُها، وليس المُرادُ أنَّهم كانوا يَجتَمِعونَ مَعَ بَعضٍ في فِعلِها؛ فإنَّه لا يُشتَرَطُ ذلك، قد أخَذَتهمُ النَّارُ، أي: فنَراهم يا رَبِّ الآنَ وقد دَخَلوا النَّار، فإنَّا نَشفَعُ فيهم ونَرجو أن تَقبَلَ شَفاعَتَنا فيهم، فيَقولُ اللهُ لهم: اذهَبوا، أي: إلى النَّارِ، فمَن عَرَفتُم، أي: مِن إخوانِكُمُ المَوصوفينَ بما ذَكَرتُم، صورتَه فأخرِجوه، أي: مِنَ النَّارِ، ويُحَرِّمُ صورَتَهم على النَّارِ، أي: يَمنَعُ اللهُ النَّارَ أن تُحرِقَ وُجوهَ أولئك القَومِ؛ فإنَّ اللَّهَ قد حَرَّمَ على النَّارِ أن تَأكُلَ آثارَ السُّجودِ، فيَذهَبونَ إلى النَّارِ فيَجِدونَ الرَّجُلَ، أي: مِمَّن يَعرِفونَه، قد أخَذَته النَّارُ إلى أنصافِ ساقَيه، أي: بَلَغَ به العَذابُ حتَّى وصَلَ نِصفَ ساقَيه، وإلى رُكبَتَيه، أي: وبَعضُهم بَلَغَ به العَذابُ إلى رُكبَتَيه، وإلى حَقْوَيه، أي: وبَعضُهم وصَلَ به العَذابُ حَقْوَيه، وهو مَكانُ مَعقِدِ الإزارِ، والمَعنى: أنَّ عَذابَهم يَكونُ على حَسَبِ المَعاصي، فيُخرِجونَ مِنها بَشَرًا كَثيرًا، أي: أنَّهم يُخرِجونَ مِنَ النَّارِ خَلقًا كَثيرًا، ثُمَّ يَعودونَ فيَتَكَلَّمونَ، أي: يَرجِعُ هؤلاء المُؤمِنونَ إلى اللهِ تعالى ويُكَلِّمونَه مَرَّةً أُخرى في أن يُشَفِّعَهم في أُناسٍ آخَرينَ في النَّارِ، فيَقولُ اللهُ لهم: اذهَبوا، أي: إلى النَّارِ، فمَن وجَدتُم في قَلبِه مِثقالَ قيراطٍ -أي: مِقدارَ جُزءٍ يَسيرٍ، والقيراطُ: جُزءٌ مِن أجزاءِ الدِّينارِ، والمَعنى: مَن في قَلبِه قَدرُ أقَلِّ القَليلِ- مِن خَيرٍ فأخرِجوه، أي: فأخرجوه مِنَ النَّارِ، فيَذهَبونَ فيُخرِجونَ مِنها، أي: مِنَ النَّارِ بَشَرًا كَثيرًا، أي: خَلقًا كَثيرًا. ثُمَّ يعودونَ مَرَّةً ثالِثةً إلى اللهِ، فيَتَكَلَّمونَ ويَطلُبونَ مِنه أن يُشَفِّعَهم في أُناسٍ آخَرينَ، فلا يَزالُ اللهُ يَقولُ لهم ذلك، أي: يَقولُ لهمُ: اذهَبوا فأخرِجوا مِنها كَذا وكَذا، حتَّى يَقولَ لهم: اذهَبوا فمَن وجَدتُم في قَلبِه مِثقالَ ذَرَّةٍ، أي: مِقدارَ نَملةٍ صَغيرةٍ، مِنَ الإيمانِ فأخرِجوه، أي: فأخرِجوه مِنَ النَّارِ. فكان أبو سَعيدٍ الخُدريُّ رَضِيَ اللهُ عنه، وهو راوي الحَديثِ، إذا حَدَّثَ بهذا الحَديثِ قال: إن لَم تُصَدِّقوا، أي بهذا الذي ذُكِرَ في هذا الحَديثِ مِن خُروجِ الموحِّدينَ الذينَ عِندَهم شَيءٌ مِنَ الإيمانِ مِنَ النَّارِ بشَفاعةِ إخوانِهمُ المُؤمِنينَ الصَّالِحينَ، فاقرَؤوا قَولَه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا}
[النساء: 40] ، وهذا ليس على مَعنى أنَّهمُ اتَّهَموه، وإنَّما كان مِنه على مَعنى التَّأكيدِ، فيَقولونَ: رَبَّنا لم نَذَرْ فيها خَيرًا، أي: يَقولُ المُؤمِنونَ بَعدَ أن أخرَجوا مِنها مَن أخرَجوا، لَم نَترُكْ في النَّارِ يا رَبِّ مَن فيه خَيرٌ.
وفي الحَديثِ إثباتُ شَفاعةِ المُؤمِنينَ في إخراجِ أقوامٍ مِنَ النَّارِ.
وفيه بَيانُ سَعةِ رَحمةِ اللهِ تعالى وفضلِه على عِبادِه.
وفيه أنَّ عُصاةَ المُسلِمينَ يُعَذَّبونَ في النَّارِ على قَدرِ مَعاصيهم، ثُمَّ يُخرِجُهمُ اللهُ بفضلِه، ثُمَّ بشَفاعةِ الشَّافِعينَ.
وفيه أنَّ الوَجهَ لا تُؤَثِّرُ فيه النَّارُ؛ إكرامًا لمَحَلِّ السُّجودِ.
وفيه إثباتُ مُخاطَبةِ المُؤمِنينَ للهِ تعالى ومُخاطَبةِ اللهِ لهم.
وفيه تَصديقُ القُرآنِ للسُّنَّةِ .