كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حافِظًا للعُهودِ موفيًا بها، ومِن صُوَرِ وفائِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالعُهودِ ما جاءَ في هذا الحَديثِ؛ حَيثُ يَحكي أبو رافِعٍ وهو خادِمُ ومَولى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيَقولُ: بَعَثَتني قُرَيشٌ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أي: أرسَلَته قُرَيشٌ قَبلَ أن يُسلِمَ -وكان أبو رافِعٍ نَصرانيًّا كما جاءَ في الرِّوايةِ الأُخرى- إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في حاجةٍ أو أمرٍ ما، يَقولُ أبو رافِعٍ: فلَمَّا رَأيتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أُلقيَ في قَلبي الإسلامُ، أي: وقَعَ في قَلبِه حُبُّ الإسلامِ، ودَخل فيه الإيمانُ. فقال: يا رَسولَ اللهِ، إنِّي واللهِ لا أرجِعُ إليهم أبَدًا، أي: لا أُريدُ الرُّجوعَ إلى قُرَيشٍ، وهذا بَيانٌ مِنه لتَمَكُّنِ الإسلامِ مِن قَلبِه؛ فليس عِندَه الرَّغبةُ في العَودةِ لقُرَيشٍ، فقال له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنِّي لا أخيسُ بالعَهدِ. أصلُه مِن: خاسَ الشَّيءُ في الوِعاءِ: إذا فسَدَ، أي: لا أنقُضُ العَهدَ ولا أُفسِدُه، ولا أحبِسُ البُرُدَ، جَمعُ بَريدٍ، وهمُ الرُّسُلُ، أي: لا أحبِسُهم عِندي وأمنَعُهم مِنَ الرُّجوعِ. والمَعنى في ذلك أنَّ الرِّسالةَ تَقتَضي جَوابًا، والجَوابُ لا يَصِلُ إلى المُرسَلِ إلَّا على لسانِ الرَّسولِ بَعدَ انصِرافِه، فصارَ كَأنَّه عَقَد له العَهدَ مُدَّةَ مَجيئِه ورُجوعِه، ثُمَّ قال له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ولَكِنِ ارجِعْ، أي: إلى قُرَيشٍ، فإن كان في نَفسِك الذي في نَفسِك الآنَ، أي: ارجِعْ وأَنْهِ مُهِمَّةَ رِسالَتِك أولًا؛ لأنَّ في قَبولِك الإسلامَ الآنَ نَقضًا للعَهدِ، فإذا رَجَعتَ إلى قُرَيشٍ ووجَدتَ مِن نَفسِك الذي وجَدتَه الآنَ عِندي مِن حُبِّ الإسلامِ، فارجِعْ، أي: مِن عِندِ الكُفَّارِ إلينا، قال أبو رافِعٍ: فذَهَبتُ، أي: عُدتُ إلى قُرَيشٍ. ثُمَّ أتَيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فأسلَمتُ، أي: رَجَعَ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأعلَنَ الإسلامَ، وحَسُنَ إسلامُه، وكان مِن مَوالي رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
وفي الحَديثِ عَلَمٌ مِن أعلامِ النُّبوَّةِ؛ حَيثُ جَعَلَ اللهُ رُؤيةَ أبي رافِعٍ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سَبَبًا لإسلامِه.
وفيه أنَّ العَهدَ يُراعى مَعَ الكافِرِ كما يُراعى مَعَ المُسلِمِ.
وفيه أنَّ الكافِرَ إذا عُقِدَ مَعَه عَقدُ أمانٍ فالمَشروعُ أن يُؤمَّنَ وأن لا يُغتالَ في دَمٍ ولا مالٍ ولا مَنفَعةٍ.
وفيه بَيانُ حِفظِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للعُهودِ.
وفيه مَشروعيَّةُ الوَفاءِ بالشَّرطِ الصَّحيحِ مَعَ المُسلِمينَ والكُفَّارِ.
وفيه بَيانُ أنَّ الرُّسُلَ لا تُحبَسُ.
وفيه بَيانُ إسلامِ أبي رافِعٍ رَضِيَ اللهُ عنه .