بَعَث اللهُ تعالى الأنبياءَ والرُّسُلَ لدَعوةِ النَّاسِ لتَوحيدِ اللهِ تعالى وتَركِ عِبادةِ الأصنامِ والأوثانِ، فقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 
[النحل: 36] ، فبَلَّغَ رُسُلُ اللهِ تعالى ما أُمِروا به، وكان أعظَمَهم بلاغًا ونصحًا لأُمَّتِه نَبيُّنا مُحَمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فدَعا النَّاسَ لعِبادةِ اللهِ تعالى، وحَذَّرَهم مِنَ الشِّركِ ووسائِله؛ فقد كان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حريصًا على سَدِّ وقَطعِ وسائِلِ الشِّركِ القَوليَّةِ والفِعليَّةِ، ومِن وسائِلِ الشِّركِ القَوليَّةِ قَولُ: ما شاءَ اللهُ وشاءَ فلانٌ؛ لأنَّ فيها مُساواةَ مَشيئةِ الخالقِ بمَشيئةِ المَخلوقِ؛ فعَن طُفَيلِ بنِ سَخبرةَ رَضيَ الله عنه، وهو صَحابيٌّ أخو عائِشةَ لأُمِّها أمِّ رومانَ، وهو أكبَرُ مِن عائِشةَ، أنَّه رَأى فيما يَرى النَّائِمُ كَأنَّه مَرَّ برَهطٍ أي: جَماعةٍ مِنَ الرِّجالِ ما دونَ العَشَرةِ مِنَ اليَهودِ، فقال لَهم: مَن أنتُم؟ قالوا: نَحنُ اليَهودُ، فقال لَهمُ الطُّفَيلُ: إنَّكُم أنتُمُ القَومُ، لَولا أنَّكُم تَزعُمونَ أنَّ عُزَيرًا ابنُ اللهِ، أي: نِعمَ القَومُ أنتُم لَولا ما أنتُم عليه مِنَ الشِّركِ والمَسَبَّةِ للَّهِ بنِسبةِ الولَدِ إليه. وعُزَيرٌ رَجُلٌ صالحٌ أو نَبيٌّ، ادَّعى اليَهودُ أنَّه ابنُ اللهِ، فقالتِ اليَهودُ: وأنتُمُ القَومُ لَولا أنَّكُم تَقولونَ: ما شاءَ اللهُ، وشاءَ مُحَمَّدٌ، أي: عارَضوه بذِكرِ شَيءٍ مِمَّا في المُسلمينَ مِنَ الشِّركِ الأصغَرِ، فقالوا له هذا الكَلامَ، أي: نِعمَ القَومُ أنتُم لَولا ما فيكُم مِنَ الشِّركِ، وكَذلك جَرى له مَعَ النَّصارى، فمَرَّ الطُّفَيلُ برَهطٍ مِنَ النَّصارى، فقال: مَن أنتُم؟ قالوا: نَحنُ النَّصارى، فقال: إنَّكُم أنتُمُ القَومُ، لولا أنَّكُم تَقولونَ: المَسيحُ ابنُ اللهِ. والمَسيحُ هو نَبيُّ اللهِ عيسى بنُ مَريَم عليه السَّلامُ، قالوا: وأنتُمُ القَومُ، لولا أنَّكُم تَقولونَ: ما شاءَ اللهُ، وما شاءَ مُحَمَّدٌ. فلَمَّا أصبَحَ الطُّفيلُ أخبَرَ بها مَن أخبَرَ، أي: أخبَرَ بهذه الرُّؤيا مَن أخبَرَ مِنَ الصَّحابةِ، ثُمَّ أتى إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فأخبَرَه بالرُّؤيا، فقال له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هَل أخبَرتَ بها أحَدًا؟ قال عَفَّانُ، وهو أحَدُ الرُّواةِ: فقال الطُّفَيلُ: نَعَمْ. فلَمَّا صَلَّوا -أي: صَلاةَ الظُّهرِ كما في الرِّوايةِ الأُخرى: فلَمَّا صَلَّى الظُّهرَ قامَ خَطيبًا- خَطَبَهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فحَمِدَ اللَّهَ، وأثنى عليه، ثُمَّ قال: إنَّ طُفيلًا رَأى رُؤيا فأخبَرَ بها مَن أخبَرَ مِنكُم، وإنَّكُم كُنتُم تَقولونَ كَلمةً كان يَمنَعُني الحَياءُ مِنكُم أن أنهاكُم عَنها، أي: حَيثُ إنَّ هذه الكَلمةَ موهِمةٌ مُساواةَ الخالقِ بالمَخلوقِ، وهذا الحَياءُ مِنهم ليس على سَبيلِ الحَياءِ مِنَ الإنكارِ عليهم، بَل كان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَكرَهُها ويَستَحيي أن يَذكُرَها؛ لأنَّه لَم يُؤمَرْ بإنكارِها، فلَمَّا جاءَ الأمرُ الإلَهيُّ بالرُّؤيا الصَّالحةِ أنكَرَها، ولَم يَستَحيِ في ذلك. ثُمَّ قال: لا تَقولوا: ما شاءَ اللهُ وما شاءَ مُحَمَّدٌ. فنَهاهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَن قَولِ هذه الكَلمةِ لِما فيها مِن إيهامِ المُساواةِ بَينَ الخالقِ والمَخلوقِ.
وفي الحَديثِ الثَّناءُ على ما عِندَ الآخَرينَ مِنَ الحَقِّ وإن كانوا كُفَّارًا.
وفيه مَعرِفةُ اليَهودِ والنَّصارى بالشِّركِ.
وفيه مَشروعيَّةُ التَّحَدُّثِ بالرُّؤى وإخبارِ الآخَرينَ بها.
وفيه حُسنُ خُلُقِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وعَدَمُ احتِجابِه عَنِ النَّاسِ.
وفيه أنَّ الصَّحابةَ كانوا يَقُصُّونَ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما يَرَونَه في المَنامِ.
وفيه أنَّ الرُّؤيا في زَمَنِ النُّبوةِ قد تَكونُ سَبَبًا لتَشريعِ بَعضِ الأحكامِ.
وفيه مَشروعيَّةُ حَمدِ اللهِ والثَّناءِ عليه في الخُطَبِ.
وفيه الخُطبةُ في الأُمورِ المُهمَّةِ.
وفيه نَهيُ الصَّحابةِ عَن قَولِ: ما شاءَ اللهُ وشاءَ مُحَمَّدٌ، ومِثلُه: ما شاءَ اللهُ وشاءَ فُلانٌ.
وفيه أنَّ قَولَ: ما شاءَ اللهُ وشاءَ مُحَمَّدٌ، مِنَ الشِّركِ الأصغَرِ؛ إذ لو كانت مِنَ الأكبَرِ لأنكَرَها مِن أوَّل مَرَّةٍ قالوها .