كان فتحُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمَكَّةَ فتحًا مُبينًا عَظيمًا أعَزَّ اللَّهُ به الإسلامَ وأظهرَه، وقد ذَكَرَ أصحابُ السِّيَرِ كَيفيَّةَ سَيرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لفتحِ مَكَّةَ وما كان فيها مِن أحداثٍ، ومِن ذلك ما جاءَ عن عبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّه قال: مَضى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أي: سارَ مِنَ المَدينةِ إلى مَكَّةَ في رَمَضانَ في السَّنةِ الثَّامِنةِ مِنَ الهجرةِ، واستَخلَف على المَدينةِ أبا رُهمٍ كُلثومَ بنَ حُصَينٍ الغِفاريَّ رَضيَ اللهُ عنه، أي: جَعَلَه خَليفةً له في المَدينةِ يُصَلِّي بالنَّاسِ، وخَرَجَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لعَشرٍ مَضَينَ مِن رَمَضانَ، أي: بَعدَ عَشَرةِ أيَّامٍ مِن دُخولِ شَهرِ رَمَضانَ، فصامَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو مُسافِرٌ إلى مَكَّةَ، وصامَ النَّاسُ مَعَه؛ حَتَّى إذا كان بالكَدِيدِ -وهو أرضٌ بَينَ عُسْفانَ وأمَجَ، ويُسَمَّى الآنَ خليصًا، ويُعرَفُ الكَدِيدُ اليَومَ باسِم الحَمضِ- أفطَرَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. ثُمَّ مَضى، أي: سارَ حَتَّى نَزَلَ بمَرِّ الظَّهرانِ، وهو وادٍ قُربَ مَكَّةَ على مَسافةِ 22 كيلومِترًا، وعِندَ الوادي قَريةٌ يُقالُ لَها مَرٌّ تُضافُ إلى الوادي، فيُقالُ: مَرُّ الظَّهرانِ. في عَشَرةِ آلافٍ مِنَ المُسلمينَ، أي: ومَعَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِنَ الجُندِ عَشَرةُ آلافِ مُقاتِلٍ مِن عِدَّةِ قَبائِلَ مِنَ العَرَبِ، مِن مُزَينةَ وسُلَيمٍ، أي: مِن قَبيلةِ مُزَينةَ وسُلَيمٍ، وفي كُلِّ القَبائِلِ عَدَدٌ وإسلامٌ، أي: في كُلِّ قَبيلةٍ مَجموعةٌ مِمَّن خَرَجَ مَعَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأوعَبَ، أي: خَرَجَ جَميعُهم مَعَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المُهاجِرونَ والأنصارُ، فلَم يَتَخَلَّفْ مِنهم أحَدٌ، فلَمَّا نَزَلَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بمَرِّ الظَّهرانِ، وقد عَمِيَتِ الأخبارُ عن قُرَيشٍ، أي: أُخفيَتِ الأخبارُ عن قُرَيشٍ بقُدومِ رَسولِ اللهِ عليهم. فلمَ يَأتِهم عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خَبَرٌ، ولا يَدرونَ ما هو فاعِلٌ؟ أي: لَم يَعلَموا ماذا يُريدُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَفعَلَ بهم بَعدَ أن نَقَضوا العَهدَ والصُّلحَ الذي بَينَه وبَينَهم. فخَرَجَ في تلك اللَّيلةِ أبو سُفيانَ بنُ حَربٍ، وحَكيمُ بنُ حِزامٍ، وبُدَيلُ بنُ وَرقاءَ. وكانوا ما زالوا على الشِّركِ، يَتَحَسَّسونَ ويَنظُرونَ، أي: يَستَطلعونَ الخَبَرَ، هَل يَجِدونَ خَبَرًا، أو يَسمَعونَ به صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقد كان العَبَّاسُ بنُ عَبدِ المُطَّلِبِ رَضيَ اللهُ عنه أتى رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ببَعضِ الطَّريقِ. وقد كان أبو سُفيانَ بنُ الحارِثِ بنِ عَبدِ المُطَّلِبِ، وعبدُ اللهِ بنُ أبي أُميَّةَ بنِ المُغيرةِ قد لَقِيَا رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أيضًا فيما بَينَ مَكَّةَ والمَدينةِ، فالتَمَسا، أي: طَلَبا الدُّخولَ عليه، فكَلَّمَته أمُّ سَلَمةَ فيهما، أي: كَلَّمَت أمُّ سَلَمةَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بشَأنِهم تَستَأذِنُ لَهم، فقالت: يا رَسولَ اللهِ، ابنُ عَمِّك، والمَقصودُ به أبو سُفيانَ بنُ الحارِثِ بنِ عَبدِ المُطَّلِبِ، وابنُ عَمَّتِك وصِهرُك. والمَقصودُ به عبدُ اللهِ بنُ أبي أُميَّةَ، فهو ابنُ عَمَّةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأُمُّه هيَ عاتِكةُ بنتُ عَبدِ المُطَّلِبِ، وهيَ عَمَّةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وصِهرُه فهو أخو أمِّ سَلَمةَ زَوجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. والمَعنى: أنَّهم يا رَسولَ اللهِ يَستَأذِنونَ عليك في الدُّخولِ، فهَل تَأذَنُ لَهم؟ فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا حاجةَ لي بهما، أي: ليس لي بهما حاجةٌ، فلا آذَنُ لَهما؛ أمَّا ابنُ عَمِّي فهَتك عِرضي، أي: نَسبي، وذلك أنَّ أبا سُفيانَ بنَ الحارِثِ كان يَهجو النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ويُؤذيه بأشعارِه، وأمَّا ابنُ عَمَّتي وصِهري فهو الذي قال لي بمَكَّةَ ما قال. وذلك أنَّ عبدَ اللهِ بنَ أبي أُميَّةَ قال للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لَن نُؤمِنَ لَك حَتَّى تَفجُرَ لَنا مِنَ الأرضِ يَنبوعًا! وكان شَديدَ العَداوةِ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. فلَمَّا أُخرِج إليهما بذلك، أي: لمَّا أُخرِجَ إليهما بما قاله رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. وكان مَعَ أبي سُفيانَ بنِ الحارِثِ ابنٌ له، فقال: واللهِ ليَأذَنَنَّ لي أو لَآخُذَنَّ بيَدِ ابني هذا، ثُمَّ لنَذهَبَنَّ في الأرضِ حَتَّى نَموتَ عَطَشًا وجوعًا! أي: إذا لَم يَأذَنْ لي النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فسَوف أذهَبُ أنا وابني في الأرضِ حَتَّى نَمَوت عَطَشًا وجوعًا، ولَعَلَّه قال ذلك لِما يَعلَمُ مِن شَفقةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وعَطفِه ورَحمَتِه؛ ولذلك لَمَّا بَلغَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَولُ أبي سُفيانَ رَقَّ لَهما، أي: لأبي سُفيانَ وعبدِ اللهِ بنِ أبي أُميَّةَ، ثُمَّ أذِنَ لَهما، فدَخَلا وأسلَما. وأنشَدَ أبو سُفيانَ بنُ الحارِثِ شِعرًا في إسلامِه، واعتَذَرَ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِمَّا كان مَضى مِنه، فلَمَّا نَزَلَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بمَرِّ الظَّهرانِ، قال العَبَّاسُ: وا صَباحَ قُرَيشٍ! وهذا نِداءُ نُدبةٍ يُقالُ عِندَ التَّفجُّعِ على شَخصٍ حَصَلَ له مَكروهٌ، واللهِ لَئِن دَخَلَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَنوةً، أي: قَهرًا، قَبلَ أن يَستَأمِنوه، أي: قَبلَ أن يَطلُبوا مِنه الأمانَ، إنَّه لهَلاكُ قُرَيشٍ إلى آخِرِ الدَّهرِ! والمَعنى: أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا دَخَلَ مَكَّةَ قَهرًا وقُرَيشٌ لَم تَطلُبْ مِنه الأمانَ فإنَّه سيَهلِكُ جَميعُ قُرَيشٍ ولا يَبقى مِنهم أحَدٌ ما بَقيَ الدَّهرُ. يَقولُ العَبَّاسُ: فجَلَستُ على بَغلةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم البَيضاءِ، فخَرَجتُ عليها حَتَّى جِئتُ الأراكَ، وهو مَوضِعٌ بعَرَفةَ، فقُلتُ: لعَلِّي ألقى بَعضَ الحَطَّابةِ، أي: الذينَ يَجمَعونَ الحَطَبَ، أو صاحِبَ لَبَنٍ، أي: أغنامٍ، أو ذا حاجةٍ، أي: شَخصًا له غَرَضٌ، فيَأتي مَكَّةَ ليُخبِرَهم بمَكانِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليَخرُجوا إليه فيَستَأمِنوه قَبلَ أن يَدخُلَها عليهم عَنوةً. والمَعنى: أنَّ العَبَّاسَ تَمَنَّى أن يَلقى بَعضَ النَّاسِ الذينَ يَقدَمونَ مَكَّةَ حَتَّى يُخبروهم بمَقدَمِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ حَتَّى يَخرُجوا إليه ويَطلُبوا مِنه الأمانَ. قال: فواللهِ إنِّي لأسيرُ عليها، أي: البَغلةِ، وألتَمِسُ ما خَرَجتُ له، أي: مِمَّن يَقدَمُ مَكَّةَ ويُخبرُهم برَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. إذ سَمِعتُ كَلامَ أبي سُفيانَ بنِ حَربٍ وبُدَيلِ بنِ وَرقاءَ، وهما يَتَراجَعانِ، أي: كلٌّ يُكَلِّمُ الآخَرَ ويُراجِعُه في القَولِ، وأبو سُفيانَ يَقولُ: ما رَأيتُ كاليَومِ قَطُّ نيرانًا ولا عَسكَرًا! أي: وذلك لعِظَمِ عَسكَرِ وعَدَدِ المُسلمينَ، فقال له بُدَيلٌ: هذه واللَّهِ نيرانُ خُزاعةَ، حَمشَتْها الحَربُ! أي: ألهَبَتها وأحرَقَتها الحَربُ، فقال أبو سُفيانَ: خُزاعةُ -واللهِ- أذَلُّ وألأمُ مِن أن تَكونَ هذه نيرانُها وعَسكَرُها، أي: أنَّهم لَيسوا بهذه المَكانةِ حَتَّى يَجمَعوا هذه النِّيرانَ وهذه الأعدادَ. يَقولُ العَبَّاسُ: فعَرَفتُ صَوتَه، أي: صَوتَ أبي سُفيانَ، فقُلتُ: يا أبا حَنظَلةَ! فعَرَف صَوتي، أي: عَرَف أبو سُفيانَ صَوتَ العَبَّاسِ فقال: أبو الفَضلِ! أي: أنتَ أبو الفضلِ. فقال العَبَّاسُ: نَعَم. فقال أبو سُفيانَ: ما لَك؟ فِداك أبي وأُمِّي! أي: ما شَأنُك هنا فدَيتُك بأبي وأُمِّي. فقال العَبَّاسُ: ويحَك! وهيَ كَلِمةُ تَرَحُّمٍ وتَوجُّعٍ، تُقالُ لمَن وقَعَ في هَلَكةٍ لا يَستَحِقُّها، يا أبا سُفيانَ. هذا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في النَّاسِ، وا صَباحَ قُرَيشٍ، واللَّهِ! أي: أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قادِمٌ عليكُم، فيا وَيلَ قُرَيشٍ! فقال أبو سُفيانَ: فما الحيلةُ فِداك أبي وأُمِّي؟! أي: فما نَفعَلُ إذَن؟ فقال العَبَّاسُ: واللهِ لَئِن ظَفِرَ بك، أي: قدَرَ عليك وأمسَكَك، رَسولُ اللهِ ليَضرِبنَّ عُنُقَك؛ وذلك لأنَّ أبا سُفيانَ كان شَديدَ العَداوةِ لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال العَبَّاسُ لأبي سُفيانَ: فاركَبْ مَعي هذه البَغلةَ حَتَّى آتيَ بك رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أستَأمِنُه لَك، أي: حَتَّى أطلُبَ لَك مِنه الأمانَ، فرَكِبَ أبو سُفيانَ خَلفَ العَبَّاسِ على البَغلةِ، ورَجَعَ صاحِباه، أي: رَجَعَ صاحِبا أبي سُفيانَ، وهما حَكيمُ بنُ حِزامٍ وبُدَيلُ بنُ وَرقاءَ، فحَرَّكَ العَبَّاسُ البَغلةَ بأبي سُفيانَ وجَعَلا يَسيرانِ، وكُلَّما مَرَّ العَبَّاسُ بنارٍ مِن نيرانِ المُسلمينَ، أي: كُلَّما مَرُّوا بجَماعةٍ مِنَ المُقاتِلينَ المُسلمينَ ورَأوا العَبَّاسَ ومَعَه أبو سُفيانَ سَألوهم وقالوا: مَن هذا؟ فإذا رَأوا بغلةَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قالوا: عَمُّ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على بَغلَتِه، أي: أنَّهم يَترُكونَهما لكَونِهما على بَغلةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وعليها عَمُّه العَبَّاسُ. حَتَّى مَرُّوا بنارِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه، فقال عُمَرُ: مَن هذا؟ وقامَ إلى العَبَّاسِ، فلَمَّا رَأى عُمَرُ أبا سُفيانَ على عَجُزِ النَّاقةِ، أي: على مُؤَخَّرَتِها قال: أبو سُفيانَ عَدوُّ اللهِ! الحَمدُ للَّهِ الذي أمكَن مِنك بغَيرِ عَقدٍ ولا عَهدٍ، أي: أنَّ هذه فُرصةٌ لَنا حَيثُ مَكَّنَنا اللهُ مِنك وليس لَك أمانٌ بعَقدٍ أو عَهدٍ؛ فإنَّك إذَن تَستَحِقُّ القَتلَ! ثُمَّ خَرَجَ عُمَرُ يَشتَدُّ، أي: يَجري ويُسرِعُ نَحوَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أي: حَتَّى يُخبرَه بوُجودِ أبي سُفيانَ، ورَكَضَتِ البَغلةُ، فسَبَقَته بما تَسبقُ الدَّابَّةُ البَطيئةُ الرَّجُلَ البَطيءَ، أي: أنَّ البَغلةَ سَبَقَته؛ وذلك أنَّه مَهما كانتِ الدَّابَّةُ ضَعيفةً وبَطيئةً فهيَ تَسبقُ الرَّجُلَ الذي يَمشي على رِجلَيه، يَقولُ العَبَّاسُ: فاقتَحَمتُ عنِ البَغلةِ، أي: قَفزتُ مِنَ البَغلةِ، فدَخَلتُ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ودَخل عُمَرُ، فقال: يا رَسولَ اللهِ، هذا أبو سُفيانَ! قد أمكَنَ اللَّهُ مِنه بغَيرِ عَقدٍ ولا عَهدٍ، فدَعني فلأضرِبْ عُنُقَه! فقال العَبَّاسُ: يا رَسولَ اللهِ، إنِّي قد أجَرتُه، أي: جَعَلتُه في جِواري وذِمَّتي؛ فلَيسَ لأحَدٍ عليه سَبيلٌ، ثُمَّ جَلَستُ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأخَذتُ برَأسِه فقُلتُ: لا واللَّهِ لا يُناجيه، أي: يُكَلِّمُه ويُسارِرُه اللَّيلةَ رَجُلٌ دوني، أي: أحَدٌ غَيري. فلَمَّا أكثَرَ عُمَرُ في شَأنِه، أي: شَأنِ أبي سُفيانَ، قال العَبَّاسُ: مَهلًا يا عُمَرُ! واللهِ لَو كان مِن رِجالِ بَني عَديِّ بنِ كَعبٍ ما قُلتَ هذا، ولَكِنَّك عَرَفتَ أنَّه رَجُلٌ مِن رِجالِ بَني عَبدِ مَنافٍ! أي: أنَّك يا عُمَرُ لمَّا عَرَفتَ أنَّ أبا سُفيانَ مِن بَني عَبدِ مَنافٍ وليس مِن قَبيلَتِك بَني عَديٍّ قُلتَ: إنَّك تُريدُ قَتلَه، ولَو كان مِن بَني عَديٍّ لَم تَقُلْ ذلك! فقال عُمَرُ: مَهلًا يا عَبَّاسُ! فواللهِ لإسلامُك يَومَ أسلَمتَ كان أحَبَّ إليَّ مِن إسلامِ الخَطَّابِ لَو أسلَمَ! وما بي إلَّا أنِّي قد عَرَفتُ أنَّ إسلامَك كان أحَبَّ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن إسلامِ الخَطَّابِ لَو أسلَمَ! والمَعنى: أنَّ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه بَيَّنَ مَكانةَ ومَنزِلةَ العَبَّاسِ عِندَه وأنَّ إسلامَه أحَبُّ إليه مِن إسلامِ الخَطَّابِ والدِ عُمَرَ لَو أسلَمَ؛ وذلك لَأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يُحِبُّ إسلامَ العَبَّاسِ؛ فلَيسَ حِرصُ عُمَرَ على قَتلِ أبي سُفيانَ لكَونِه مِن بَني عَبدِ مَنافٍ، وإنَّما لكَونِه عَدوًّا للَّهِ ورَسولِه. فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للعَبَّاسِ: اذهَبْ به، أي: بأبي سُفيانَ إلى رَحلِك، أي: خَيمَتِك ومَكانِك يا عَبَّاسُ، فإذا أصبَحَ، أي: حَلَّ الصَّباحُ فأْتِني به. يَقولُ العَبَّاسُ: فذَهَبتُ به إلى رَحلي فباتَ عِندي، أي: نامَ أبو سُفيانَ تلك اللَّيلةَ عِندَ العَبَّاسِ، فلَمَّا أصبَحَ غَدَوتُ به -أي: ذَهَبتُ به، والغُدوُّ الذَّهابُ في الصَّباحِ- إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلَمَّا رَآه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ويحَكَ يا أبا سُفيانَ! ألَم يَأنِ لَك أن تَعلَمَ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؟! أي: أمَا آنَ لَك بَعدَ كُلِّ هذا الذي رَأيتَه والانتِصارِ والظُّهورِ للإسلامِ أن تُؤمِنَ؟ فقال أبو سُفيانَ: بأبي أنتَ وأُمِّي، أي: أفديك بأبي وأُمِّي، ما أكرَمَك وأحلَمَك وأوصَلَك! أي: أنتَ كَريمٌ حَليمٌ وَصولٌ للرَّحِمِ، واللهِ لَقد ظَنَنتُ أنْ لَو كان مَعَ اللهِ غَيرُه لَقد أغنى عنِّي شَيئًا بَعدُ! أي: لَقد عَلِمتُ أنَّه لَو كان مَعَ اللهِ إلَهٌ غَيرُه لكان أنجاني وأنقَذَني وأغنى عنِّي! فقال رَسولُ اللهِ: وَيحكَ يا أبا سُفيانَ! ألَم يَأنِ لَك أن تَعلَمَ أنِّي رَسولُ اللهِ؟! أي: أمَا آنَ لَك أن تُقِرَّ وتُؤمِنَ بأنِّي رَسولٌ مِن عِندِ اللهِ؟ فقال أبو سُفيانَ: بأبي أنتَ وأُمِّي، ما أحلَمَك وأكرَمَك وأوصَلَك! هذه واللَّهِ كان في نَفسي مِنها شَيءٌ حَتَّى الآنَ، أي: أنَّ كَونَك رَسولَ اللهِ ما زالَ في نَفسي مِنه شَيءٌ حَتَّى الآنَ! فقال العَبَّاسُ: وَيحكَ يا أبا سُفيانَ! أسلِمْ واشهَدْ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللهِ قَبلَ أن يُضرَبَ عُنُقُك! أي: قَبلَ أن تُقتَلَ بكُفرِك. فعِندَ ذلك شَهدَ أبو سُفيانَ شَهادةَ الحَقِّ وأسلَمَ. فقال العَبَّاسُ: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ أبا سُفيانَ رَجُلٌ يُحِبُّ هذا الفخرَ، أي: يُحِبُّ الزَّعامةَ والمَكانةَ والرِّياسةَ، فاجعَلْ له شَيئًا، أي: اجعَلْ له شَيئًا يَفتَخِرُ به. فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: نَعَم، مَن دَخَلَ دارَ أبي سُفيانَ فهو آمِنٌ، ومَن أغلَقَ بابَه فهو آمِنٌ، ومَن دَخل المَسجِدَ، أي: المَسجِدَ الحَرامَ، فهو آمِنٌ. والمَعنى: أنَّ مَن فَعلَ أيَّ واحِدٍ مِن هذه الثَّلاثةِ فلَه الأمانُ مِنَ القَتلِ. فلَمَّا ذَهَبَ أبو سُفيانَ ليَنصَرِفَ قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يا عَبَّاسُ! احبِسْه، أي: أوقِفْه بمَضيقِ الوادي عِندَ خَطمِ الجَبَلِ، أي: أنفِ الجَبَلِ. وهو شَيءٌ يَخرُجُ مِنه يَضيقُ به الطَّريقُ، فيُزحَمُ عِندَه الخَيلُ فيَراها جَميعَها، وإنَّما حَبسَه هناكَ لكَونِه مَضيقًا ليَرى الجَميعَ ولا يَفوتَه رُؤيةُ أحَدٍ مِنهم، حَتَّى تَمُرَّ به جُنودُ اللهِ فيَراها. يَقولُ العَبَّاسُ: فخَرَجتُ به، أي: بأبي سُفيانَ، حَتَّى حَبَستُه حَيثُ أمَرَني رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن أحبسَه. ومَرَّت به القَبائِلُ على راياتِها، كُلَّما مَرَّت قَبيلةٌ قال أبو سُفيانَ: مَن هؤلاء؟ فيَقولُ العَبَّاسُ: سُلَيمٌ، أي: قَبيلةُ سُلَيمٍ، فيَقولُ أبو سُفيانَ: ما لي ولسُلَيمٍ؟ ثُمَّ تَمُرُّ القَبيلةُ، فيَقولُ أبو سُفيانَ: مَن هؤلاء؟ فيَقولُ العَبَّاسُ: مُزَينةُ، أي: قَبيلةُ مُزَينةَ. فيَقولُ أبو سُفيانَ: ما لي ولمُزَينةَ؟ حَتَّى نَفَذَت، أي: مَرَّتِ القَبائِلُ، لا تَمُرُّ قَبيلةٌ إلَّا قال أبو سُفيانَ: مَن هؤلاء؟ فيَقولُ العَبَّاسُ: بَنو فُلانٍ. فيَقولُ أبو سُفيانَ: ما لي ولبَني فُلانٍ؟ حَتَّى مَرَّ رَسولُ اللهِ في كَتيبَتِه الخَضراءِ فيها المُهاجِرونَ والأنصارُ، لا يُرى مِنهم إلَّا الحَدَقُ مِنَ الحَديدِ. والحَدَقُ جَمعُ حَدَقةٍ، وهيَ سَوادُ العَينِ، والمَعنى: أنَّهم لَبِسوا دُروعَ الحَديدِ وغَطَّوا بها صُدورَهم فلَم يَظهَرْ مِنهم إلَّا أعيُنُهم، فأعجَب أبا سُفيانَ مَنظَرُ كَتيبةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والكَتيبةُ القِطعةُ مِنَ الجَيشِ، وفيها المُهاجِرونَ والأنصارُ، فقال: سُبحانَ اللَّهِ! مَن هؤلاء يا عَبَّاسُ؟! فقال العَبَّاسُ: هذا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في المُهاجِرينَ والأنصارِ. فقال أبو سُفيانَ: ما لأحَدٍ بهؤلاء قِبَلٌ ولا طاقةٌ، أي: ليس لَنا بهم قوةٌ ولا نُطيقُ قِتالَهم. واللهِ يا أبا الفَضلِ، لَقد أصبَحَ مُلكُ ابنِ أخيك الغَداةَ، أي: اليَومَ، عَظيمًا! أي: أنَّ أمرَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أصبَحَ اليَومَ ذا شَأنٍ ومَكانةٍ. فقال العَبَّاسُ: يا أبا سُفيانَ، إنَّها النُّبوَّةُ، أي: أنَّ هذا ليس بمُلكٍ ولَكِنَّها النُّبوَّةُ وتَأييدُ اللهِ له. فقال أبو سُفيانَ: فنَعَم إذَنْ، أي: صَدَقتَ في كَلامِك وأنَّها النُّبوَّةُ حَقًّا. فقال العَبَّاسُ لأبي سُفيانَ: النَّجاءَ إلى قَومِك، أي: أسرِعْ إلى قَومِك وأخبِرْهم بما رَأيتَه لَعَلَّهم يَنجونَ مِنَ القَتلِ. فخَرَجَ أبو سُفيانَ حَتَّى إذا جاءَهم، أي: إلى قُرَيشٍ، صَرَخَ بأعلى صَوتِه: يا مَعشَرَ قُرَيشٍ! هذا مُحَمَّدٌ قد جاءَكُم بما لا قِبَلَ لَكُم به، فمَن دَخَلَ دارَ أبي سُفيانَ فهو آمِنٌ، فقامَت إليه امرَأتُه هِندُ بنتُ عُتبةَ، فأخَذَت بشارِبه فقالت: اقتُلوا الدَّسمَ، أي: السَّمينَ، الأحمَسَ، أي: كَثيرَ اللَّحمِ، والمَعنى: الأسودُ الدَّنيءُ؛ قالته له في مَعرِضِ الذَّمِّ، قَبُحَ مِن طَليعةِ قَومٍ! والطَّليعةُ: الذي يَحرُسُ القَومَ، أي: أنَّها دَعَت على زَوجِها بأنَّه أقبَحُ رَجُلٍ ذَهَبَ يَستَطلعُ الخَبَرَ لقَومِه بشَأنِ مُحَمَّدٍ، فإذا هو قد رَجَعَ مِن عِندِه مُسلمًا. فقال أبو سُفيانَ: ويحَكم لا تَغرَّنَّكُم هذه مِن أنفُسِكُم، أي: لا تُصَدِّقوا لكَلامِ هذه المَرأةِ ولا تَخدَعنَّكُم؛ فإنَّ مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد جاءَ ما لا قِبَلَ لَكُم به، أي: جاءَ بجُندِ عَظيمٍ لا يَستَطيعُ أحَدٌ قِتالَه، مَن دَخَلَ دارَ أبي سُفيانَ فهو آمِنٌ، فقالوا: وَيلَك! وما تُغني دارُك؟! أي: أنَّ دارَك صَغيرةٌ ونَحنُ كَثيرٌ فما تُغني عنَّا؟! فقال: ومَن أغلَقَ بابَه فهو آمِنٌ، ومَن دَخل المَسجِدَ فهو آمِنٌ. فتَفرَّقَ النَّاسُ إلى دُورِهم، وإلى المَسجِدِ، أي: أنَّ النَّاسَ عِندَ ذلك ذَهَبوا ودَخَلَ كُلُّ واحِدٍ دارَه أوِ المَسجِدَ الحَرامَ. ثُمَّ دَخَلَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَكَّةَ وافتَتَحَها، ونَصَرَه اللهُ عَزَّ وجَلَّ الوليُّ النَّصيرُ.
وفي الحَديثِ مَشروعيَّةُ استِخلافِ الإمامِ مَن يَنوبُ عنه إذا خَرَجَ في سَفرٍ أو غَزوٍ.
وفيه بَيانُ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم غَزا مَكَّةَ في رَمَضانَ.
وفيه مَشروعيَّةُ صيامِ المُسافِرِ.
وفيه بَيانُ كَثرةِ عَدَدِ جُندِ المُسلمينَ في فتحِ مَكَّةَ.
وفيه عَدَمُ تَخَلُّفِ المُهاجِرينَ والأنصارِ في فتحِ مَكَّةَ.
وفيه الاستِئذانُ عِندَ الدُّخولِ على الإمامِ.
وفيه شِدَّةُ ما لاقاه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِنَ العَداءِ مِن أقارِبه.
وفيه رِقَّةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وشَفقَتُه بالنَّاسِ.
وفيه خَوفُ العَبَّاسِ رَضيَ اللهُ عنه على قُرَيشٍ وهم قَومُه.
وفيه شِدَّةُ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه في دينِ اللهِ.
وفيه مَشروعيَّةُ إجارةِ الكُفَّارِ.
وفيه بَيانُ حُبِّ عُمَرَ لإسلامِ العَبَّاسِ.
وفيه تَقديمُ ما يُحِبُّه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على ما تُحِبُّه النَّفسُ.
وفيه حِرصُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على إسلامِ أبي سُفيانَ.
وفيه بَيانُ إسلامِ أبي سُفيانَ.
وفيه مُراعاةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمَكانةِ النَّاسِ ومَنازِلِهم.
وفيه تَرغيبُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم النَّاسَ في الأمانِ وعَدَمِ القَتلِ.
وفيه بَيانُ حِكمةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بجَعلِ العَبَّاسِ يَمُرُّ بأبي سُفيانَ عِند مَضيقِ الجَبَلِ؛ حَتَّى يَرى جُندَ المُسلمينَ.
وفيه إظهارُ اللهِ تَعالى لدينِه ونَصرُه لنَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
وفيه خُطورةُ الزَّوجةِ السَّيِّئةِ .