الحَياةُ الزَّوجيَّةُ قائِمةٌ على المَحَبَّةِ والرَّحمةِ، وفيها حُقوقٌ وواجِباتٌ، فكما للزَّوجِ على زَوجَتِه حُقوقٌ، فكذلك للزَّوجةِ على زَوجِها حُقوقٌ، وبقيامِ كُلٍّ منَ الزَّوجَينِ بأداءِ ما عليه من حُقوقٍ وواجِباتٍ تَستَقيمُ الحَياةُ الزَّوجيَّةُ، ولَكِنَّ حَقَّ الزَّوجِ على زَوجَتِه مِن أعظَمِ الحُقوقِ، وفَضلُ الزَّوجِ على زَوجَتِه لا يَعدِلُه أيُّ فَضلٍ، والزَّوجةُ مَهما عَمِلَت فلَن تَستَطيعَ أن تُوَفِّيَ زَوجَها حَقَّه، ومِمَّا يَدُلُّ على عَظيمِ حَقِّ الزَّوجِ ما جاءَ في هذا الحَديثِ؛ فقد كان أهلُ بَيتٍ مِنَ الأنصارِ لهم جَمَلٌ يَسْنُونَ عليه، أي: يَستَقونَ الماءَ على ظَهرِه، والسَّانيةُ: هيَ النَّاقةُ التي يُستَقى عليها، وإنَّ الجَمَلَ استَصعَبَ عليهم، أي: أصبَحَ غَيرَ مُنقادٍ لهم ولا ذَلولٍ؛ فمَنَعَهم ظَهرَه، أي: مَنَعَهم أن يَستَقوا عليه، فجاءَ الأنصارُ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقالوا له: إنَّه كان لَنا جَمَلٌ نَسْني عليه، أي: نَستَقي عليه، وإنَّه استَصعَبَ علينا، أي: أصبَحَ غَيرَ مُنقادٍ لَنا، ومَنَعَنا ظَهرَه، وقد عَطِشَ الزَّرعُ والنَّخلُ، أي: والحالُ أنَّه ليس مَعنا جَمَلٌ غَيرُه حَتَّى نَسقيَ به زَرْعَنا. فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأصحابِه: قوموا، فقاموا، فدَخَلَ الحائِطَ، أي: البُستانَ، والجَمَلُ في ناحيةِ البُستانِ، فمَشى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَحوَ الجَمَلِ، فقال الأنصارُ: يا رَسولَ اللهِ، إنَّه قد صارَ مِثلَ الكَلْبِ الكَلِبِ! أي: أنَّه أصبَحَ خَطَرًا مِثلَ الكَلبِ المَسعورِ، وهو داءٌ يُشبِهُ الجُنونَ يَأخُذُه فيَعقِرُ النَّاسَ، وإنَّا نَخافُ عليك صَولَتَه، أي: وَثْبَتَه وسَطْوَه عليك، فقال رَسولُ اللهِ: ليس عَلَيَّ مِنه بَأسٌ! والمَعنى: أنَّ اللَّهَ سيَحميني مِنه، فلَمَّا نَظَرَ الجَمَلُ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أقبَلَ نَحوَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، حَتَّى خَرَّ ساجِدًا بَينَ يَدَيِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم! فأخَذَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بناصيةِ الجَمَلِ -وهيَ مُقدَّمُ رَأسِه- أذَلَّ ما كانت قَطُّ! أي: أنَّ الجَمَلَ أصبَحَ مُذَلَّلًا مُنقادًا حَتَّى أدخَلَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في العَمَلِ، أي: السَّقيِ عليه، فلَمَّا رَأى الصَّحابةُ هذا المَوقِفَ مِنَ الجَمَلِ وسُجودَه للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قالوا: يا نَبيَّ اللهِ، هذه بَهيمةٌ لا تَعقِلُ، تَسجُدُ لك، ونَحنُ نَعقِلُ، فنَحنُ أحَقُّ أن نَسجُدَ لَك! أي: إذا كانت هذه البَهيمةُ قد سَجَدَت لك وهيَ بَهيمةٌ عَجماءُ غَيرُ مُكَلَّفةٍ، فنَحنُ أولى بالسُّجودِ لك؛ تَكريمًا لك لعَظيمِ حَقِّك ومَكانتِك. فقال رَسولُ اللهِ: لا يَصلُحُ لبَشَرٍ أن يَسجُدَ لبَشَرٍ، أي: أنَّ هذا الأمرَ مَنهيٌّ عنه؛ فالسُّجودُ عِبادةٌ لا تَكونُ إلَّا للَّهِ تعالى، ولَو صَلَحَ لبَشَرٍ أن يَسجُدَ لبَشَرٍ، أي: ولَو قُدِّرَ أنَّه يَجوزُ أن يَسجُدَ البَشَرُ للبَشَرِ لَأمَرتُ المَرأةَ أن تَسجُدَ لزَوجِها مَن عِظَمِ حَقِّه عليها، أي: لكَثرةِ حُقوقِه عليها وعَجْزِها عنِ القيامِ بشُكرِها. والذي نَفسي بيَدِه، لَو كان، أي: الزَّوجُ، مِن قَدَمِه إلى مَفرِقِ رَأسِه، أي: وسَطِ رَأسِه- قَرْحةً، أي: جُرْحًا، تَنبَجِسُ، أي: تَنفجِرُ وتَنبُعُ بالقَيحِ -وهو الشَّيءُ الأبيَضُ الخاثِرُ الذي لا يُخالِطُه دَمٌ- والصَّديدِ، وهو الدَّمُ المُختَلِطُ بالقَيحِ، أو ماءُ الجُرحِ الرَّقيقُ، ثُمَّ استَقبَلَته الزَّوجةُ تَلحَسُ هذه القَرْحةَ، ما أدَّت حَقَّه! أي: أنَّها لَو عَمِلَت ذلك العَمَلَ لَن تُؤَدِّيَ حَقَّه. والمَقصودُ مِن هذا كُلِّه بَيانُ عِظَمِ حَقِّ الزَّوجِ على زَوجَتِه، ووُجوبِ طاعَتِه والإحسانِ إليه، كما ورَدَتِ الوصايا الكَثيرةُ المُتَكَرِّرةُ بالنِّساءِ، ووُجوبِ تَقوى اللهِ فيهنَّ؛ حِفاظًا على قِوامِ الأُسرةِ المُسلِمةِ.
وفي الحَديثِ أنَّ البَهائِمَ قد يَقَعُ مِنها النُّفرةُ والشِّدَّةُ.
وفيه أنَّ الصَّحابةَ كانوا يَشكونَ جَميعَ أحوالِهم للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حَتَّى ما يَقَعُ مِنَ البَهائِمِ.
وفيه اهتِمامُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بشُؤونِ أصحابِه.
وفيه حُبُّ الصَّحابةِ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وخَوفُهم عليه.
وفيه بَيانُ ما جَعَلَه اللهُ في الحَيَواناتِ مِن حُبِّها للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ومَعرِفتِها به.
وفيه رِفقُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالحَيَواناتِ.
وفيه عَدَمُ صَلاحيَّةِ السُّجودِ لغَيرِ اللهِ تعالى.
وفيه بَيانُ عِظَمِ حَقِّ الزَّوجِ على الزَّوجةِ .