مِنَ الوصايا التي أوصى بها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أُمَّتَه لُزومُ السُّنَّةِ ومُتابَعةُ هَديِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فقد جاءَ عنه في أحاديثَ كَثيرةٍ الحَثُّ على التَّمَسُّكِ بالسُّنَّةِ وتَركِ الابتِداعِ في الدِّينِ، ومِن ذلك قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: عليكُم بسُنَّتي وسُنَّةِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدينَ مِن بَعدي، وإيَّاكُم ومُحدَثاتِ الأُمورِ؛ فإنَّ كُلَّ مُحدَثةٍ بِدعةٌ، وكُلَّ بدعةٍ ضَلالةٌ؛ ولهذا كان الإحداثُ والابتِداعُ في الدِّينِ عَلامةً على الضَّلالِ والانحِرافِ، ولَو كان ذلك بقَصدٍ حَسَنٍ، فإنَّ الدِّينَ كامِلٌ ولَم يَمُتِ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلَّا وقد بَلَّغَ جَميعَ ما أُمِرَ به، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}
[المائدة: 3] ، وإنَّ مِن أعظَمِ ما ابتُليَت به الأُمَّةُ الإحداثَ والابتِداعَ في دينِ اللهِ ما لَم يَأذَنْ به سُبحانَه، وما ضَلَّتِ الفِرَقُ الضَّالَّةُ كالخَوارِجِ وغَيرِهم إلَّا بسَبَبِ تَركِهم للسُّنَّةِ وابتِداعِهم في دينِ اللهِ تعالى، ولَقد حَذَّرَ الصَّحابةُ ومَن بَعدَهم مِن ذلك أشَدَّ التَّحذيرِ، وكانوا يُنكِرونَ على مَن وقَعَ في البدعةِ، ويُحَذِّرونَ مِن بدعَتِه، ومِمَّا جاءَ في ذلك، يَقولُ عَمرُو بنُ سَلمةَ الهَمدانيُّ، وهو أحَدُ كِبارِ التَّابعينَ: كُنَّا نَجلِسُ على بابِ عَبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه قَبلَ صَلاةِ الغَداةِ، أي: الفَجرِ، فإذا خَرَجَ مَشَينا مَعَه إلى المَسجِدِ، فجاءَنا أبو موسى الأشعَريُّ رَضِيَ اللهُ عنه، فقال: أخرَجَ إلَيكُم أبو عَبدِ الرَّحمَنِ؟ يَعني: عَبدَ اللهِ بنَ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، بَعدُ، أي: هَل خَرَجَ ابنُ مَسعودٍ أم ما زالَ لَم يَخرُجْ؟ فقالوا: لا، فجَلَسَ مَعَهم أبو موسى يَنتَظِرُ خُروجَ ابنِ مَسعودٍ، حَتَّى خَرَجَ ابنُ مَسعودٍ، فلَمَّا خَرَجَ قُمنا إلَيه جَميعًا، أي: حَتَّى يَمشوا مَعَه إلى المَسجِدِ، فقال له أبو موسى: يا أبا عَبدِ الرَّحمَنِ، إنِّي رَأيتُ في المَسجِدِ آنِفًا، أي: الآنَ، أمرًا أنكَرْتُه، أي: أمرًا مُنكَرًا لَم أرَه مِن قَبلُ، ولَم يَكُنْ على عَهدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولَم أرَ والحَمدُ للَّهِ إلَّا خَيرًا، أي: ولَكِنَّه أمرٌ خَيرٌ، قال ابنُ مَسعودٍ: فما هو؟ فقال أبو موسى: إن عِشتَ فسَتَراه، أي: إذا كُتِبَ لَك أن تَعيشَ إلى أن تَصِلَ إلى المَسجِدِ فسَوف تَراه بنَفسِك، ثُمَّ أخبَرَه أبو موسى بما رَأى، فقال: رَأيتُ في المَسجِدِ قَومًا حِلَقًا جُلوسًا، أي: مُتَحَلِّقينَ بَعضُهم حَولَ بَعضٍ حِلَقًا مُتَعَدِّدةً، يَنتَظِرونَ الصَّلاةَ، وفي كُلِّ حَلقةٍ رَجُلٌ، أي: يَكونُ عليهم بمَنزِلةِ الآمِرِ لَهم والمسؤولِ عنهم، وفي أيديهم حَصًى، أي: يُحصونَ بها تَكبيرَهم وتَهليلَهم وتَسبيحَهم، وهذا الرَّجُلُ يَقولُ لَهم: كَبِّروا مِئةً، أي: قولوا: اللهُ أكبَرُ بصَوتٍ مُرتَفِعٍ جَماعيٍّ مَعَ بَعضٍ، فيُكَبِّرونَ مِئةً، ثُمَّ يَقولُ لَهم: هَلِّلوا مِئةً، أي: قولوا: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ بصَوتٍ مُرتَفِعٍ جَماعيٍّ مَعَ بَعضٍ، فيُهَلِّلونَ مِئةً. ثُمَّ يَقولُ لَهم: سَبِّحوا مِئةً، أي: قولوا: سُبحانَ اللهِ بصَوتٍ مُرتَفِعٍ جَماعيٍّ مَعَ بَعضٍ، فيُسَبِّحونَ مِئةً. هذا ما رَآه أبو موسى في المَسجِدِ، وكان يَظُنُّ أنَّ هذا الأمرَ ليس فيه شَيءٌ وأنَّه خَيرٌ؛ لأنَّ ما يَفعَلُه هؤُلاء القَومُ هو عِبارةٌ عن ذِكرٍ للَّهِ تعالى. فقال له عَبدُ اللهِ بنُ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه: فماذا قُلتَ لَهم؟ فقال أبو موسى: ما قُلتُ لَهم شَيئًا انتِظارَ رَأيِك؛ فقد كان ابنُ مَسعودٍ مِن خيرةِ عُلَماءِ الصَّحابةِ، وكانوا يَرجِعونَ إلَيه في كَثيرٍ مِنَ المَسائِلِ ويَستَفتونَه. فقال ابنُ مَسعودٍ لأبي موسى: أفلا أمَرتَهم أن يَعُدُّوا سَيِّئاتِهم! وضَمِنتُ لَهم أن لا يَضيعَ مِن حَسَناتِهم شَيءٌ! يَعني: ما يَفعَلُه هؤلاء ليس صحيحًا، وكان الأجدَرُ بهم أن يَعُدُّوا ويُحصوا سَيِّئاتِهم، وأمَّا الحَسَناتُ فلا داعيَ لأن يُحصوا عَدَّها بهذه الحَصى التي مَعَهم. ثُمَّ مَضى ابنُ مَسعودٍ ومَضى أصحابُه مَعَه، حَتَّى أتى إلى حَلقةٍ مِن تلك الحِلَقِ، فوقَف عليهم فقال لَهم: ما هذا الذي أراكُم تَصنَعونَ؟ فقالوا: يا أبا عَبدِ الرَّحمَنِ، حَصًى نَعُدُّ به التَّكبيرَ والتَّهليلَ والتَّسبيحَ، أي: كَأنَّهم يَقولونَ: هذا أمرٌ خَيرٌ حَيثُ نَعُدُّ كَم كَبَّرْنا وكَم سَبَّحْنا وكَم هَلَّلْنا. فقال لَهمُ ابنُ مَسعودٍ مُنكِرًا علَيهم فِعلَهم ذلك: فعُدُّوا سَيِّئاتِكُم؛ فأنا ضامِنٌ أن لا يَضيعَ مِن حَسَناتِكُم شَيءٌ. ثُمَّ اشتَدَّ عليهم في النَّكيرِ فقال: وَيْحَكُم يا أُمَّة مُحَمَّدٍ! ما أسرَعَ هَلَكَتَكُم، أي: ما أسرَعَ ما وقَعتُم في الهَلاكِ! وذلك بسَبَبِ إحداثِكم في الدِّينِ المُؤَدِّي إلى الهَلاكِ، وما زالَ العَهدُ قَريبًا بمَوتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فكَيف الحالُ إذا بَعُدَ العَهدُ؟! هؤلاء صَحابةُ نَبيِّكُم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُتَوافِرونَ، أي: مَوجودونَ جميعًا، وهذه ثيابُه، أي: النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، لَم تَبْلَ، أي: لَم تَخلَقْ وتُصبِحْ باليةً وقديمةً، فما زالَت حَديثةً، وآنيَتُه لَم تُكسَرْ، أي: ما زالَت مَوجودةً، ثُمَّ قال: والذي نَفسي بيَدِه إنَّكُم لعلى مِلَّةٍ هيَ أهدى مِن مِلَّةِ مُحَمَّدٍ أو مُفتَتِحو بابِ ضَلالةٍ، يَعني: استَغرَبَ عليهم هَل ما يَفعَلونَه أهدى مِمَّا جاءَ به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فالنَّبيُّ هو الذي يُقتَدى به، ومَعَ ذلك لَم يَأمُرْ ولَم يَفعَلْ ما يَفعَلُه هؤلاء، فإمَّا أن يَكونوا أهدى مِن هَديِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهذا مُنتَفٍ عنهم، أو أنَّهم مُفتَتِحو بابِ ضَلالةٍ، وهذا هو الواقِعُ وأنَّ ما فعَلوه فَتحُ بابِ بدعةٍ وضَلالٍ. فقال هؤلاء القَومُ مُعتَذِرينَ ومُبَيِّنينَ لسَبَبِ فِعلِهمُ الذي فعَلوه: واللهِ يا أبا عَبدِ الرَّحمَنِ، ما أرَدْنا إلَّا الخَيرَ، أي: نَحنُ نُريدُ الخَيرَ والأجرَ والثَّوابَ، وليس مَقصودُنا الإحداثَ ومُخالَفةَ هَديِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. فقال ابنُ مَسعودٍ: وكَم مِن مُريدٍ للخَيرِ لَن يُصيبَه! أي: كَثيرًا مِنَ النَّاسِ يُريدُ الخَيرَ لَكِنَّه لا يَحصُلُ عليه بسَبَبِ عَدَمِ التِزامِه للهَديِ النَّبَويِّ، فمَن كان يُريدُ الخَيرَ فعليه باتِّباعِ سُنَّةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ ففيها كُلُّ خَيرٍ وفيها التَّحذيرُ مِن كُلِّ شَرٍّ. ثُمَّ قال ابنُ مَسعودٍ: إنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حَدَّثَنا أنَّ قَومًا يقرؤونَ القُرآنَ لا يُجاوِزُ تراقِيَهم. والتَّراقي: جَمعُ تَرقوةٍ، وهيَ العِظامُ بَينَ ثُغرةِ النَّحرِ والعاتِقِ، والمَعنى: لا يَخلُصُ عن ألسِنَتِهم وآذانِهم إلى قُلوبِهم، أي: أنَّ قِراءَتَهم لا يَرفعُها اللهُ ولا يَقبَلُها، فكَأنَّها لَم تَتَجاوَزْ حُلوقَهم. وقيلَ المَعنى: أنَّهم لا يَعمَلونَ بالقُرآنِ ولا يثابون على قِراءَتِه، فلا يَحصُلُ لَهم غَيرُ القِراءةِ. يَمرُقونَ، أي: يَخرُجونَ مِنَ الإسلامِ كما يَمرُقُ السَّهمُ مِنَ الرَّميةِ، أي: مِنَ القَوسِ. وايمُ اللَّهِ، أي: واللهِ ما أدري لَعَلَّ أكثَرَهم مِنكُم! أي: فاللهُ أعلَمُ لَعَلَّ الذينَ أخبَرَ عنهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تَكونونَ أنتُم! ثُمَّ تَرَكَهمُ ابنُ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، وتَولَّى عنهم. يَقولُ عَمرُو بنُ سَلَمةَ راوي القِصَّةِ: فرَأينا عامَّةَ أولئك الحِلَقِ، أي: هؤلاء القَومِ الذينَ كانوا مُتَحَلِّقينَ في المَسجِدِ والذينَ أنكَرَ عليهمُ ابنُ مَسعودٍ، يُطاعِنونا، أي: يُقاتِلونَنا يَومَ النَّهروانِ مَعَ الخَوارِجِ! أي: مَعَ فِرقةِ الخَوارِجِ الذينَ يُكَفِّرونَ أهلَ الإسلامِ بالمَعاصي، ويَخرُجونَ على أئِمَّةِ المُسلمينَ ويُقاتِلونَهم، وقد خَرَجوا في عَهدِ الخَليفةِ الرَّاشِدِ عَليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، وقاتَلَهم عليٌّ في مَعرَكةِ النَّهروانِ سَنةَ ثَمانٍ وثَلاثينَ للهجرةِ، والنَّهروان: بَلدةٌ واسِعةٌ بَينَ بَغدادَ وواسِطٍ.
وفي الحَديثِ حِرصُ السَّلَفِ على مُجالَسةِ أهل العِلمِ والسَّيرِ مَعَهم.
وفيه مَشروعيَّةُ القيامِ للقادِمِ.
وفيه الرُّجوعُ إلى أهلِ العِلمِ عِندَ حُدوثِ ما يُشكِلُ في أمرِ الدِّينِ.
وفيه سُؤالُ العالمِ لتَلاميذِه عَمَّا عِندَهم مِنَ العِلمِ حَتَّى يَعرِفَ ما عِندَهم.
وفيه تَوقُّفُ التِّلميذِ عنِ الإفتاءِ عن شَيءٍ بدونِ عِلمٍ.
وفيه مَعرِفةُ بدايةِ ظُهورِ البدَعِ وأنَّها حَدَثَت في زَمَنِ الصَّحابةِ.
وفيه خُطورةُ أمرِ البدَعِ في الدِّينِ.
وفيه الشِّدَّةُ في الإنكارِ على أهلِ البدَعِ.
وفيه أنَّ القَصدَ الحَسَنَ ليس عُذرًا في فِعلِ البدَعِ.
وفيه أنَّ العَمَلَ وإن وافقَ نيَّةً حَسَنةً لَم يَصِحَّ إلَّا إذا وقَعَ على وَفقِ الشَّرعِ.
وفيه بَيانُ أنَّ أكثَرَ الذينَ وقَعوا في البدَعِ كان بسَبَبِ قَصدِهم للخَيرِ.
وفيه مَشروعيَّةُ الحَلِفِ بلَفظِ: وايمُ اللَّهِ.
وفيه إخبارُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن فِرقةِ الخَوارِجِ.
وفيه تَحَقُّقُ قَولِ ابنِ مَسعودٍ في أولئك القَومِ؛ فقد ذَهَبوا مَعَ الخَوارِجِ وقاتَلوا المُسلمينَ.
وفيه فضلُ ابنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه وبَيانُ مَكانتِه ومَنزِلَتِه .