كان مِن هَديِ السَّلَفِ أنَّهم يَطلُبونَ مِن عُلَمائِهم وأهلِ الخَيرِ فيهم عِندَ سَفَرِهمُ النَّصيحةَ والوصيَّةَ في الدِّينِ، لا سيَّما عِندَ حُدوثِ الفِتَنِ، لَعَلَّ اللَّهَ أن يَنفعَ بها، ومِن ذلك وصيَّةُ أبي مَسعودٍ الأنصاريِّ رَضِيَ اللهُ عنه لأصحابِه عِندَ خُروجِه؛ فعن يُسَيرِ بنِ عَمرٍو رَضِيَ اللهُ عنه، وهو مِمَّن رَأى النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليَّ وسَلَّمَ، قال: شَيَّعْنا أبا مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه -واسمُه عُقبةُ بنُ عَمرٍو الأنصاريُّ- حينَ خَرَجَ. والتَّشييعُ: الخُروجُ مَعَ المُسافِرِ لتَوديعِه، أي: مَشَوا مَعَه إلى أن خَرَجَ مِنَ البَلَدِ، وقد جاءَ في رِوايةٍ أنَّ ذلك كان عِندَما خَرَجَ مِنَ الكوفةِ يُريدُ أن يُحرِمَ، فنَزَلَ في طَريقِ القادِسيَّةِ، فدَخَلَ بُستانًا، أي: حُشًّا ليَقضيَ حاجَتَه؛ لأنَّهم كانوا كَثيرًا ما يتغَوَّطون في البَساتينِ، فقَضى حاجَتَه، ثُمَّ تَوضَّأ ومَسَحَ على جَورَبَيه، والجَورَبُ: لباسُ الرِّجلِ مِنَ الصُّوفِ أوِ القُطنِ ونَحوِه، وهو ما يُعرَفُ الآنَ بالشَّرابِ، ثُمَّ خَرَجَ وإنَّ لحيَتَه ليَقطُرُ مِنها الماءُ، فقُلْنا له: اعهَدْ إلينا، أي: أوصِنا؛ فإنَّ النَّاسَ قد وقَعوا في الفِتَنِ -ولَعَلَّه يَقصِدُ الفِتَنَ التي حَصَلَت مِن مَقتَلِ أميرِ المُؤمِنينَ عُثمانَ بنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عنه وما بَعدَها، فقد جاءَ في رِوايةٍ: أنَّ أبا مَسعودٍ لمَّا قُتِلَ عُثمانُ احتَجَبَ في بَيتِه- ولا نَدري هَل نَلقاك بَعدَ ذلك أم لا، فقال أبو مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه: اتَّقوا اللَّهَ، واصبِروا حَتَّى يَستَريحَ بَرٌّ، أو يُستَراحَ مِن فاجِرٍ. ويُقصَدُ بذلك أن يَصبروا حَتَّى يَأتيَ الواحِدَ مِنهمُ المَوتُ؛ فقد جاءَ أنَّ مَوتَ الفاجِرِ يَستَريحُ مِنه العِبادُ والبلادُ والشَّجَرُ والدَّوابُّ، ومَوتُ البَرِّ يَستَريحُ هو مِنَ الدُّنيا وتَعَبِها وأذاها، وعليكُم بالجَماعةِ، أي: الزَموا جَماعةَ المُسلِمينَ، وذلك بالسَّمعِ والطَّاعةِ للإمامِ وعَدَمِ الخُروجِ عليه؛ فإنَّ اللَّهَ لا يَجمَعُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ على ضَلالةٍ.
وفي الحَديثِ مَشروعيَّةُ تَشييع المُسافِرِ عِندَ سَفرِه.
وفيه مَشروعيَّةُ المَسحِ على الجَورَبَينِ.
وفيه مَشروعيَّةُ طَلَبِ الوصيَّةِ مِن أهلِ العِلمِ والصَّلاحِ.
وفيه أهَمِّيَّةُ الوصيَّةِ بتَقوى اللهِ تعالى.
وفيه أهَمِّيَّةُ الصَّبرِ أيَّامَ الفِتَنِ وعَدَمِ الخَوضِ فيها حَتَّى يَلقى الإنسانُ رَبَّه.
وفيه لُزومُ جَماعةِ المُسلِمينَ وعَدَمُ الخُروجِ عنهم.
وفيه دَليلٌ على حُجِّيَّةِ الإجماعِ.
وفيه فضيلةٌ لهذه الأُمَّةِ بحَيثُ لا يَجمَعُها اللهُ على ضَلالةٍ .