كان قَبلَ أن يُبعَثَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يوجَدُ رِجالٌ مِن قُرَيشٍ حُنَفاءُ على التَّوحيدِ يَطلُبونَ الدِّينَ الحَقَّ، فكانوا يَكرَهونَ ما عليه كُفَّارُ قُرَيشٍ مِن عِبادةِ الأصنامِ والذَّبحِ لَها، وكان مِنهم زَيدُ بنُ عُمرِو بنِ نُفَيلٍ، وكان يُخالِفُ قُرَيشًا في كَثيرٍ مِن أُمورِها، وكان يَقولُ: يا مَعشَرَ قُرَيشٍ، والذي نَفسُ زَيدِ بنِ عَمرٍو بيَدِه، ما أصبَحَ مِنكُم أحَدٌ على دينِ إبراهيمَ غَيري، ثُمَّ يَقولُ: اللَّهُمَّ لَو أنِّي أعلَمُ أيُّ الوُجوهِ أحَبُّ إليك عَبَدتُك به، ولَكِنِّي لا أعلَمُه، ثُمَّ يَسجُدُ على راحَتِه، أي: كَفِّه! وقدِ التَقى به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَبلَ البَعثةِ، يَقولُ زَيدُ بنُ حارِثةَ رَضيَ اللهُ عنه مَولى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: خَرَجَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو مُردِفي، أي: جَعَلَني وراءَه إلى نُصُبٍ مِنَ الأنصابِ. والنُّصُبُ: حَجَرٌ كانوا يَنصِبونَه في الجاهليَّةِ، ويَتَّخِذونَه صَنَمًا فيَعبُدونَه، وقيلَ: هو حَجرٌ كانوا يَنصِبونَه، ويَذبَحونَ عليه فيَحمَرُّ بالدَّمِ، فذَبَحْنا له، أي: للنُّصُبِ، شاةً، وهذا له وجهانِ: أحَدُهما: أن يَكونَ زَيدُ بنُ حارِثةَ ذَبَحَ للنُّصُبِ مِن غَيرِ أمرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولا رِضاه، إلَّا أنَّه كان مَعَه فنُسِب إليه، ولأنَّ زَيدًا لَم يَكُنْ مَعَه مِنَ العِصمةِ ما كان مَعَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. والثَّاني: أن يَكونَ ذَبحَها لزادِه في خُروجِه، فاتَّفقَ ذلك عِندَ صَنَمٍ كانوا يَذبَحونَ عِندَه، لا أنَّه ذَبَحَها للصَّنَمِ، وهذا إذا جُعِلَ النُّصُبُ الصَّنَمَ. فأمَّا إذا جُعِلَ الحَجَرَ الذي يُذبَحُ عِندَه فلا كَلامَ فيه؛ ولهذا ظَنَّ زَيدُ بنُ عُمرِو بنِ نُفَيلٍ -كما سَيَأتي- أنَّ ذلك الذَّبحَ الذي ذَبَحوه مِمَّا كانت قُرَيشٌ تَذبَحُه لأنصابِها، فامتَنَعَ مِن أكلِه. ووضَعْناها، أي: الشَّاةَ في التَّنُّورِ، حَتَّى إذا نَضِجَتِ استَخرَجْناها فجَعَلْناها في سُفرَتِنا. والسُّفرةُ: طَعامٌ يَتَّخِذُه المُسافِرُ، وأكثَرُ ما يُحمَلُ في جِلدٍ مُستَديرٍ، فنُقِلَ اسمُ الطَّعامِ إلى الجِلدِ وسُمِّي به، ثُمَّ أقبَل رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَسيرُ وهو مُردِفي، أي: جَعَلَني وراءَه، في أيَّامِ الحَرِّ مِن أيَّامِ مَكَّةَ، حَتَّى إذا كُنَّا بأعلى الوادي، لَقيَ فيه، أي: الوادي، زَيدَ بنَ عَمرِو بنِ نُفَيلٍ، فحَيَّا أحَدُهما الآخَرَ بتَحيَّةِ الجاهليَّةِ، فقال له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ما لي أرى قَومَك قد شَنِفوك؟ أي: أبغَضوك، فقال زَيدُ بنُ عَمرٍو: أما واللَّهِ إنَّ ذلك لغَيرِ ثائرةٍ كانت مِنِّي إليهم، أي: لَم أصنَعْ لَهم شَرًّا، ولَكِنِّي أراهم على ضَلالةٍ، فخَرَجتُ أبتَغي، أي: أطلُبُ هذا الدِّينَ، حَتَّى قدِمتُ على أحبارِ، أي: عُلَماءِ، يَثرِبَ، أي: المَدينةِ، وكانت تُسَمَّى بذلك قَبلَ الإسلامِ، فوجَدتُهم يَعبُدونَ اللَّهَ ويُشرِكونَ به. ويَقصِدُ بهمُ اليَهودَ؛ فهمُ الذينَ كانوا في المَدينةِ، فقُلتُ: ما هذا بالدِّينِ الذي أبتَغي، فخَرَجتُ حَتَّى قَدِمتُ على أحبارِ أيلةَ. وهيَ مَدينةٌ في بلادِ الشَّامِ، وقيلَ: هيَ آخِرُ الحِجازِ وأوَّلُ الشَّامِ، وتُعرَفُ اليَومَ باسمِ العَقَبةِ؛ ميناءُ المَملَكةِ الأُردُنِّيَّةِ الهاشِميَّةِ، فوجَدتُهم يَعبُدونَ اللَّهَ ويُشرِكونَ به. ويَقصِدُ بهمُ النَّصارى؛ فهمُ الذينَ كانوا في بلادِ الشَّامِ، فقُلتُ: ما هذا بالدِّينِ الذي أبتَغي، فقال لي حَبرٌ مِن أحبارِ الشَّامِ: إنَّك تَسألُ عَن دينٍ ما نَعلَمُ أحَدًا يَعبُدُ اللَّهَ به إلَّا شَيخًا بالجَزيرةِ، أي: جَزيرةِ العَرَبِ، فخَرَجتُ حَتَّى قدِمتُ إليه، فأخبَرتُه الذي خَرَجتُ له، أي: أنَّه يَطلُبُ الدِّينَ الذي فيه عِبادةُ اللهِ وحدَه، وهو دينُ إبراهيمَ عليه السَّلامُ، فقال له ذلك الشَّيخُ: إنَّ كُلَّ مَن رَأيتَه في ضَلالةٍ، وإنَّك تَسألُ عَن دينٍ هو دينُ اللهِ، ودينُ مَلائِكَتِه، وقد خَرَجَ في أرضِك، أي: مَكَّةَ، نَبيٌّ أو هو خارِجٌ يَدعو إليه، أي: قد خَرَجَ بالفِعلِ أوِ اقتَرَبَ خُروجُه، وكان هذا قَبلَ بَعثةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ارجِعْ إليه وصَدِّقْه واتَّبِعْه، وآمِنْ بما جاءَ به، فرَجَعتُ فلَم أُحسِنْ شَيئًا بَعدُ، أي: لَم يَجِدْ أنَّ النَّبيَّ قد بُعِثَ، وفي رِوايةٍ: فلَم أختَبرْ نَبيًّا بَعدُ، فأناخَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم البَعيرَ، أي: أبرَكَ الجَمَلَ الذي كان تَحتَه، ثُمَّ قدَّمْنا إليه السُّفرةَ التي كان فيها الشِّواءُ، فقال زَيدُ بنُ عَمرٍو: ما هذه؟ سَألَ عَنها لأنَّه كان لا يَأكُلُ مِمَّا يُذبَحُ للنُّصُبِ، فقُلنا: هذه شاةٌ ذَبَحناها لنُصُبِ كَذا وكَذا. فقال: إنِّي لا آكُلُ ما ذُبِحَ لغَيرِ اللهِ. ثُمَّ إلى هنا افتَرَقَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وزَيدُ بنُ عَمرٍو، كما في الرِّوايةِ الأُخرى. ثُمَّ يَحكي زَيدُ بنُ حارِثةَ بَقيَّةَ قِصَّتِه مَعَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَعدَما تَرَكوا زَيدَ بنَ عَمرِو، فقال: وكان صَنَمانِ مِن نُحاسٍ يُقالُ لَهما: إسافٌ ونائِلةُ. وهما صَنَمانِ أحَدُهما عِندَ الصَّفا، والآخَرُ عِندَ المَروةِ، يَتَمَسَّحُ به المُشرِكونَ إذا طافوا، أي: بَعدَ أن يَطوفوا بالبَيتِ، فطاف رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وطُفتُ مَعَه، فلَمَّا مَرَرتُ مَسَحتُ به، أي: بالصَّنَمِ، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا تَمَسَّه، قال زَيدٌ: فطُفْنا، فقُلتُ في نَفسي: لأَمَسَّنَّه حَتَّى أنظُرَ ما يَقولُ، فمَسَحتُه، فقال رَسولُ اللهِ: ألَم تُنهَ؟ أنكَرَ عليه ذلك، قال زَيدٌ: فوالذي أكرَمه وأنزَلَ عليه الكِتابَ ما استَلَمتُ صَنَمًا حَتَّى أكرَمَه اللهُ بالذي أكرَمَه، وأنزَلَ عليه الكِتابَ. وماتَ زَيدُ بنُ عَمرِو بنِ نُفَيلٍ قَبلَ أن يُبعَثَ، أي: قَبلَ أن يُبعَثَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يَأتي يَومَ القيامةِ أمَّةً وحدَه، أي: أنَّ زَيدَ بنَ عَمرٍو يَأتي أمَّةً وحدَه؛ وذلك لأنَّه لَم يَكُنْ أحَدٌ مُوَحِّدًا في زَمَنِه غَيرُه.
وفي الحَديثِ بَيانُ لقاءِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بزَيدِ بنِ عَمرِو بنِ نُفَيلٍ.
وفيه فَضلُ زَيدِ بنِ عَمرِو بنِ نُفَيلٍ.
وفيه وُجودُ آثارٍ مِن بَقايا دينِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ لَدى العَرَبِ في الجاهليَّةِ.
وفيه بَيانُ ضَلالِ وانحِرافِ اليَهودِ والنَّصارى عَنِ الدِّينِ الحَقِّ.
وفيه بِشارةٌ بظُهورِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
وفيه عَدَمُ الأكلِ مِمَّا ذُبِحَ للأنصابِ.
وفيه خَلطُ كُفَّارِ قُرَيشٍ بَينَ الطَّوافِ بالبَيتِ مَعَ التَّمَسُّحِ بالأصنامِ.
وفيه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَم يَتَمَسَّحْ بالأصنامِ قَبلَ البَعثةِ، وإنَّما كان يَطوفُ بالبَيتِ فقَط.
وفيه فَضلُ زَيدِ بنِ حارِثةَ وتَقدُّمُه في الإسلامِ قَبلَ الدَّعوةِ.
وفيه بَيانُ أنَّ زَيدَ بنَ عَمرِو لَم يُدرِكِ الإسلامَ.
وفيه ثَناءُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على زَيدِ بنِ عَمرٍو .