لمَّا هاجَرَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم إلى المَدينةِ واستَقَرَّ فيها بَنى دَولةَ الإسلامِ، وبَنى المَسجِدَ وآخى بَينَ المُهاجِرينَ والأنصارِ، وبَدَأت حَياةُ الكِفاحِ والجِهادِ في سَبيلِ اللهِ، فبَدَأ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بغَزوِ الكُفَّارِ، ومِن تلك الغَزَواتِ غَزوةُ تَبوكَ، وكانت في زَمَنِ عُسرةٍ؛ بسَبَبِ قِلَّةِ الماءِ والنَّفَقةِ، وفي فَصلِ الصَّيفِ في شِدَّةِ الحَرِّ، وكان ذلك في السَّنةِ التَّاسِعةِ للهجرةِ، خَرَجَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لقِتالِ الرُّومِ، وقد أخبَرَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه سُئِلَ أن يُحَدِّثَهم عَن ساعةِ العُسرةِ، أي: عَن غَزوةِ تَبوكَ. فقال عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه يَصِفُ حالَهم في تلك الغَزوةِ: خَرَجْنا -أي: مَعَ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم- إلى تَبوكَ، وهيَ اليَومُ مَدينةٌ مِن مُدُنِ شَمالِ الحِجازِ تَبعُدُ عَنِ المَدينةِ شَمالًا (778) كَيلًا، في قَيظٍ، أي: حَرٍّ شَديدٍ، فنَزَلنا مَنزِلًا، أي: مَكانًا للنُّزولِ، وأصابَنا فيه عَطَشٌ حَتَّى ظَنَنَّا أنَّ رِقابَنا ستَنقَطِعُ مِن شِدَّةِ العَطَشِ، حَتَّى إنَّ الرَّجُلَ ليَنحَرُ بَعيرَه، أي: جَمَلَه، فيَعتَصِرُ فَرْثَه، أي: ما يَكونُ مِنَ الزِّبلِ في الكَرِشِ، فيَشرَبُه، ثُمَّ يَجعَلُ ما بَقيَ على كَبدِه! فقال أبو بَكرٍ الصِّدِّيقُ رَضيَ اللهُ عنه: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ اللَّهَ عوَّدك في الدُّعاءِ خَيرًا؛ فإنَّ اللَّهَ سُبحانَه لا يُخَيِّبُ عَبدًا دَعاه، فكَيف برَسولِ اللهِ؟! فادعُ اللَّهَ لَنا! فقال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: أوَ تُحِبُّ ذلك؟ فقال أبو بَكرٍ: نَعَمْ، فرَفعَ رَسولُ اللهِ يَدَيه إلى السَّماءِ فلَم يَرجِعْهما حَتَّى قالتِ السَّماءُ -أي: آذَنَت بمَطَرٍ، أي: جادَت وانسَكَبَت مَطَرًا، وهو مِن إطلاقِ القَولِ على الفِعلِ- فأظَلَّت، أي: أظَلَّتهمُ السَّحابُ، ثُمَّ سَكَبَت، فملؤوا ما مَعَهم مِنَ الأوعيةِ، ثُمَّ ذَهَبْنا نَنظُرُ، فلَم نَجِدْها جاوزَتِ العَسكَرَ، أي: كان نُزولُ المَطَرِ مختصًّا بهم وحدَهم.
وفي الحَديثِ مَشروعيَّةُ تَحديثِ النَّاسِ بغَزَواتِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وما لَقُوا فيها مِن مَتاعِبَ.
وفيه بَيانُ أنَّ غَزوةَ تَبوكَ كانت في شِدَّةِ الحَرِّ.
وفيه صَبرُ الصَّحابةِ وتَحَمُّلُهمُ الجِهادَ في سَبيلِ اللهِ.
وفيه بَيانُ شِدَّةِ ما لَقيَ الصَّحابةُ في غَزوةِ تَبوكَ.
وفيه أنَّ فَرثَ ما يُؤكَلُ لَحمُه غَيرُ نَجِسٍ.
وفيه مَكانةُ أبي بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه مِنَ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم.
وفيه بَيانُ مَعرِفةِ الصَّحابةِ بقَدرِ ومَنزِلةِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم عِندَ اللهِ تَعالى.
وفيه مَشروعيَّةُ طَلَبِ الدُّعاءِ مِنَ الرَّجُلِ الصَّالحِ الحَيِّ.
وفيه شَفقةُ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم على أصحابِه؛ حَيثُ دَعا لَهم.
وفيه مَشروعيَّةُ رَفعِ اليَدَينِ بالدُّعاءِ.
وفيه استِجابةُ اللَّهِ تَعالى لدُعاءِ نَبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم.
وفيه فَضلُ اللهِ تَعالى على عِبادِه؛ حَيثُ سَقاهم بَعدَ الشِّدَّةِ.
وفيه كَرامةُ اللهِ تَعالى للصَّحابةِ؛ حَيثُ اختَصَّهم بنُزولِ المَطَرِ عليهم دونَ بَقيَّةِ البِقاعِ.