كانَ عُثمانُ بنُ مَظْعونٍ رَضيَ اللهُ عنه أحدَ الصَّحابةِ العُبَّادِ الزُّهَّادِ، وقيلَ: إنَّه كان أخَا النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ مِن الرَّضاعةِ.
وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ عبدُ اللهِ بنُ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّه لمَّا مات عُثمانُ بنُ مَظْعونٍ رَضيَ اللهُ عنه، وقدِ اختُلِفَ في تاريخِ وَفاتِه، معَ الاتِّفاقِ على شُهودهِ بَدرًا؛ فقيلَ: مات سَنةَ ثَلاثٍ مِن الهِجْرةِ، وقيلَ: بعْدَ اثْنَينِ وعِشرينَ شَهرًا مِن الهِجْرةِ، وقيلَ: على رأْسِ ثَلاثينَ شَهرًا منَ الهِجْرةِ بالمَدينةِ، وهذا التَّاريخُ يدُلُّ على أنَّ مَوتَه كان في بِداياتِ الهِجْرةِ إلى المَدينةِ، ولم يكُنْ قدْ عرَف مُعظمُ النَّاسِ كلَّ الأحْكامِ والآدابِ، وعندَ وَفاتِه قالتِ امْرأةٌ -وهي عندَ البُخاريِّ أمُّ العَلاءِ امْرأةٌ مِن الأنْصار- قدْ بايَعَتِ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وسكَن عندَهم عُثمانُ بنُ مَظْعونٍ رَضيَ اللهُ عنه، وقيلَ: هي أمُّ السَّائبِ، ومنهم مَن قال: هي أمُّ خارِجةَ: «هَنيئًا لكَ الجَنَّةُ»؛ أي: أنَّها جزَمَت له بالجَنَّةِ؛ لمَا عرَفَتْه عنه مِن العِبادةِ ونَحوِه، ولمَّا قالت قوْلَها ذلك نَظَر رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إليها نظَرَ غَضْبانَ؛ زَجْرًا لها لأنَّها جزَمَت لعُثمانَ بالجَنَّةِ، وهذا مِن سُوءِ الأدَبِ بالحُكمِ على الغَيبِ، مع أنَّ أحدًا لا يَعلَمُ مَصيرَ غَيرِه عندَ اللهِ تعالَى، وهنا علَّمَها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال: «وما يُدْريكِ» أنَّه سيَدخُلُ الجَنَّةَ؟ فأخبَرَتْه أنَّه مِن أصْحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكان قدْ خرَج معه للجِهادِ، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «واللهِ إنِّي رَسولُ اللهِ، وما أدْري ما يُفعَلُ بي»، وهذا تَعْليمٌ للنَّاسِ ألَّا يَتألَّى أحدٌ على اللهِ سُبحانه، ولا يَسبِقَه بحُكمٍ وهو لا يَعلَمُ؛ لأنَّ اللهَ هو الَّذي يَحكُمُ، ويَفصِلُ في أفْعالِ العِبادِ؛ ولأنَّنا لا نَعلَمُ بدَواخِلِ الميِّتِ الَّتي يَعلَمُها اللهُ، وحَسبُ النَّاسِ أنْ يَقولوا: نَحْسَبُه على خَيرٍ، ونحْوَ هذا.
وهنا أشفَقَ النَّاسُ وحَزِنوا على عُثمانَ رَضيَ اللهُ عنه، وكأنَّهم فَهِموا مِن كَلامِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه سيُصيبُه شرٌّ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لم يَجزِمْ له بالجَنَّةِ،ولكنْ ذهَب ظنُّهم هذا، وبيَّن لهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ عُثمانَ بنَ مَظعونٍ رَضيَ اللهُ عنه سلَفٌ صالحٌ، وأنَّه تَقدَّمَ إلى اللهِ بالعَملِ الصَّالحِ، وذلك أنَّه لمَّا ماتَت زَينبُ ابنةُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، دَعا لها رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وقال: «الْحَقي بسلَفِنا الصَّالحِ الخَيِّرِ عُثمانَ بنِ مَظْعونَ»، فأظهَرَ أنَّ عُثمانَ صالحٌ، وأنَّه على خَيرٍ.
ثمَّ بكَتِ النِّساءُ حُزنًا على المَيِّتِ، فجعَل عُمَرُ بنُ الخطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه يَضرِبُهنَّ بسَوْطِه ليَمنَعَهنَّ مِن البُكاءِ، فأخَذ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بيَدِه، ومنَعَه مِن ضَربِهنَّ، وقال: «مَهْلًا يا عُمَرُ»؛ أي:تَهمَّلْ واصبِرْ عليهنَّ، ولا تَضرِبْهنَّ، ثمَّ قال للنِّساءِ: «ابْكينَ» بُكاءَ رَحمةٍ وحُزنِ قَلبٍ، ثمَّ حذَّرَهنَّ مِن «نَعيقِ الشَّيطانِ»، وهو البُكاءُ مع العَويلِ بصَوتٍ مُرتفِعٍ، أو مع التَّعْديدِ، ثمَّ قال لهنَّ: إنَّه مهْما كان البُكاءُ منَ العَينِ والقَلبِ؛ فمِن اللهِ عزَّ وجلَّ، ومِن الرَّحمةِ، وما كان مِن اليَدِ بلَطمِ الخُدودِ وضَربِ الأجْسادِ؛ فهو مَنهيٌّ عنه، وكذلك ما كان مع البُكاءِ مِن القَولِ باللِّسانِ بالهُجْرِ وسُوءِ القَولِ بتَعْديدِ المَناقِبِ، أوِ المآثِرِ، فكلُّ ذلك مِن الشَّيطانِ، وهو مَنهيٌّ عنه.
وفي الحَديثِ: تَوْجيهٌ إلى عَدمِ تَدخُّلِ المَرءِ فيما لا يَعْنيه مِن أُمورِ الدُّنْيا والآخِرةِ.
وفيه: تَوْجيهٌ لعَدمِ التَّألِّي على اللهِ بأيِّ حُكمٍ.
وفيه: مَشْروعيَّةُ البُكاءِ على المَوْتى دونَ أنْ يُصاحِبَه صَخَبٌ، ولا صَوتٌ مُرتفِعٌ، ولا سُوءُ أدَبٍ.