أحلَّ اللهُ البَيعَ وحرَّمَ الرِّبا، وقدْ أقرَّ الإسلامُ أنواعًا منَ البُيوعِ الَّتي يَتنافَى فيها الغَرَرُ والجَهالاتُ الَّتي قدْ تقَعُ لأحدِ المتعاقِدَينِ (البائعِ والمُشتري)، وحرَّمَ أنواعًا أُخرى تقَعُ بها ذاتُ العِلَّةِ؛ وهي الغَرَرُ والجَهالةُ؛ لِما يترتَّبُ عليه مِن مَفسَدةٍ لأحَدِ المتعاقِدَينِ.
وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ أنَسُ بنُ مالكٍ رضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ باع ذاتَ يَومٍ «حِلْسًا وقَدَحًا»؛ والحِلْسُ هو: كِساءٌ يُبسَطُ ويُفرَشُ في أرْضِ البَيتِ، وهو قُماشٌ رَقيقٌ يُوضَعُ على ظَهرِ البَعيرِ تَحتَ رَحْلِه الَّذي يكونُ على ظَهرِه. والقَدَحُ: الإناءُ المتَّخَذُ للشُّربِ.
وسبَبُ البَيعِ-كما جاء في رِوايةِ أبي داودَ- أنَّهما كانَا لرجُلٍ جاء يَسأَلُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حاجتَه، ويَطلُبُ المساعدةَ، فسَأَلَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن شَيءٍ في بَيتِه يُمكِنُ بَيعُه، فجاء إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بتلكَ القِطعتَينِ.
فجعَلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَعرِضُ الحِلْسَ والقَدَحَ للبَيعِ في جَمْعٍ مِن أصحابِه، وهو ما يُعرَفُ في وَقتِنا المعاصِرِ بنِظامِ (المَزادِ، أو المُزايَدةِ)؛ وهو: عَرْضُ السِّلْعةِ في جُمهورٍ مِنَ النَّاسِ، ويَتزايَدُ المشترونَ فيها، فتُباعُ لِمَن يَدفَعُ الثَّمنَ الأكثَرَ.
فأخبَرَ أنَسٌ رضِيَ اللهُ عنه أنَّ رجُلًا مِنَ القَومِ عرَضَ شِراءَهُما بدِرْهمٍ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «مَن يَزيدُ على دِرْهمٍ؟»، فكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُزايِدُ القَومَ لأَعْلى ثَمَنٍ يُمكِنُ أنْ يُباعا به، ويُكرِّرُ جُملتَه، فعرَضَ رجُلٌ آخَرُ شِراءَهُما بدِرْهَمينِ، فباع له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وهذا ليس مِنَ السَّومِ المَنهيِّ عنه، كما في حديثِ الصَّحيحينِ: «ولا يَسُمِ الرَّجُلُ على سَومِ أَخيه»؛ وهو: أنْ يقولَ لِمَنِ اشتَرَى سِلعةً في زَمنِ الخِيارِ: افسَخْ لِأبيعَكَ بِأنقَصَ. ومِثلُ ذلكَ الشِّراءُ على الشِّراءِ؛ كأنْ يقولَ لِلبائعِ: افسَخْ لِأَشترِيَ منكَ بِأزيَدَ؛ والفرْقُ بيْنَ المُزايَدةِ وبيْنَ الشِّراءِ على شِراءِ أَخيه هو: أنَّ الشِّراءَ على شِراءِ أَخيه يكونُ بعْدَ عَقْدِ البَيعِ، وقبْلَ التَّفرُّقِ مِن مَجلِسِ العقْدِ، أو في زَمنِ خِيارِ الشَّرطِ.
وفي الحَديثِ: حِرصُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على أصْحابِه، وبَذْلُ نفْسِه لهم.
وفيه: أنَّ انتفاعَ المَرْءِ بما يَملِكُه وحُسنَ تصرُّفِه فيه -ولو كان قَليلَ القيمةِ- خَيرٌ مِن سُؤالِ النَّاسِ.
وفيه: مَشروعيَّةُ البَيعِ بنِظامِ المُزايَدةِ.