كان الصَّحابةُ رضِيَ اللهُ عنهم يُحِبُّون أنْ يُهْدُوا إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الطَّعامَ، وكان هناكَ بعضُ الأَطْعِمةِ الَّتي كان يَعافُها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ التَّابعيُّ يَزيدُ بنُ الأصَمِّ أنَّه قدْ أُهدِيَ لمَيْمونةَ بنتِ الحارثِ زَوجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حَيوانُ ضَبٍّ واحدٌ، أو عدَدٌ منه، وهو حَيَوانٌ مِنَ الزَّواحِفِ يَكثُرُ في الصَّحارِي العربيَّةِ، يَشتهِرُ عندَ العرَبِ أكْلُه.
فأمَرَتْ مَيْمونةُ رضِيَ اللهُ عنه بالضَّبِّ، فصُنِعَ عليه طَعامٌ، وصادَفَ أنْ جاءَها رجُلانِ مِن قَومِها وأقارِبِها، فقدَّمتْه إليهما؛ ضِيافةً لهما، «تُتحِفُهما به»؛ يعني: تُريدُ سُرورَهُما وإكرامَهُما، مِنَ التُّحْفةِ؛ وهي في الأصلِ: الطَّرِيفُ مِنَ الفاكِهةِ، ثُمَّ استُعمِلَ في كلِّ شَيءٍ طَرِيفٍ ولَطِيفٍ.
فدَخَلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فرحَّبَ بالرَّجُلينِ، وجالَسَهما على طَعامِهِما، ثُمَّ تَناوَلَ الطَّعامَ إمَّا بيَدِه، أو قُرِّبَ له؛ لِيَأكُلَ منه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فسَأَلَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن نَوعِ اللَّحمِ، فقيلَ له: ضَبٌّ أُهدِي لنا -وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَأكُلُ الهَديَّةَ، ولا يَأكُلُ الصَّدَقةَ- «فقَذَفَه»؛ أي: ترَكَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولمْ يَتناوَلْ منه شيئًا، فتوقَّفَ الرَّجُلانِ عنِ الأكْلِ؛ اتِّباعًا لفعْلِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال لهما النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «كُلَا؛ فإنَّكُم أهْلَ نَجْدٍ تَأكُلُونَها»، أي:مِن عاداتِكُم وأعْرافِكُم أكْلُ الضَّبِّ، يُرشِدُهم بذلكَ إلى إباحةِ أكْلِه على العُمومِ، ولا مانعَ مِن تناوُلِهما له، ومُتابَعةِ طَعامِهم. ونَجْدٌ: أرْضٌ مِن أراضي العرَبِ ما بيْنَ الحِجازِ والعِراقِ.
«وإنَّا أَهْلَ تِهامةَ نَعافُها»: نَكرَهُه ولا نَأكُلُه. وتِهامةُ: مَكَّةُ وما حَولَها مِنَ البُلدانِ.
فبَيَّن النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه لمْ يَأكُلْه على وَجْهٍ خاصٍّ به، لا على وَجْهِ العُمومِ؛ لأنَّه لم يكُنْ مِن طَعامِ قَومِه، ولم يَتعوَّدْ أكْلَه، وليس المقصودُ هنا الكَراهةَ الشَّرعيَّةَ، وإنَّما المقصودُ كَراهةُ نفْسِه البَشريَّةِ لهذا النَّوعِ مِنَ الطَّعامِ، ولهذا أمَرَهم وسمَحَ لهم بأكْلِه.
وفي الحَديثِ: مَشروعيَّةُ أكْلِ لَحْمِ الضَّبِّ.
وفيه: بَيانُ أدَبِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيْه وسلَّم في الطَّعامِ، وأنَّه كان إذا كَرِه طَعامًا تَرَكه، ولم يَعِبْه.