كان مِن عادةِ العرَبِ أنْ يَحلِفوا بِآبائِهم، والحلِفُ بِالشَّيءِ تَعظيمٌ له؛ ولذلكَ نَهَى اللهُ سُبْحانَه وتَعالَى عَنِ الحلِفِ بغَيرِه؛ لأنَّ حَقيقةَ العظَمةِ مُختصَّةٌ بِاللهِ تَعالَى، فلا يسُاوَى به غَيرُه.
وفي هذا الحَديثِيُخبِرُ رجُلٌ مِن بَنِي غِفارٍ كان في مَجلِسٍ لسالِمِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عُمرَ، أنَّ رَجُلًاحَدَّثَه أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قدْ جِيءَ له بطَعامٍ مِن خُبزٍ ولَحْمٍ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ للرَّجُلِ: «ناوِلْني الذِّراعَ»؛أي: أعْطِني ذِراعَ الشَّاةِ؛ وكانتْ تُعجِبُهُ؛ لِنُضجِها وسُرعةِ استِمْرائِها معَ زيادةِ لَذَّتِها وحَلاوةِ مَذاقِها، وبُعدِها عن مَواضِعِ الأذَى، فأجابَ الرَّجُلُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في طلَبِه، وأَعْطاه الذِّراعَ، فأكَلَها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ثُمَّ طلَبَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الذِّراعَ مرَّةً ثانيةً، فأكَلَها صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ثُمَّ طلَبَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الذِّراعَ في المرَّةِ الثَّالثةِ؛ فاعترَضَه الرَّجُلُ اعتراضَ المُستفهِمِ لا المُنكِرِ، وقال للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «إنَّما هُما ذِراعانِ»، وكانَ الرَّجُلُ ناظِرًا إلى مُقتَضى العادةِ والمَعرِفةِ بأنَّ للشَّاةِ ذِراعَينِ فقَطْ، فقال له النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «وأبيكَ، لو سكَتَّ ما زِلتُ أُناوَلُ منها ذِراعًا ما دعَوتُ به»؛ أي: إنَّك لو سَكَتَّ عمَّا قُلتَ مِنَ الاستِبعادِ، وامتَثَلتَ أَمْري في مُناوَلةِ المَزيدِ مِنَ الأَذرُعِ؛ لَوَجَدتَ في القِدْرِ ما لا نِهايةَ له مِنَ الأَذرُعِ ما دُمتَ ساكِتًا، فلمَّا نَطَقتَ انقَطعَتْ، وهذا مُعجِزةٌ وكَرامةٌ له صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فكانَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُستَمِدًّا للبَرَكةِ والعَطاءِ مِنَ اللهِ؛ حيثُإنَّ البَرَكةُ هي: ثُبوتُ الخَيرِ الإلَهيِّ في الشَّيءِ.
والمُثبَتُ في الحَديثِ والرِّواياتِ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لم يقُلْ لفظَ: «وأبيكَ»؛ ولذلكَ فإنَّ سالِمَ بنَ عبدِ اللهِ لَمَّا سَمِع ذلكَ، اعتَرضَ عليها، وقال: «أمَّا هذه فلا»؛ أي: لمْيَقُلْها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ وقدْ سَمِعتُ عبدَ اللهِ بنَ عُمرَ يقولُ: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «إنَّ اللهُ تبارَكَ وتعالَى يَنْهاكم أنْ تَحلِفوا بآبائِكُم»؛ والمرادُ بالنَّهيِ عنِ الحلِفِ عامٌّ في جميعِ المَخلوقاتِ، وتَخصيصُه الآباءَ بالذِّكرِ خرَجَ مَخرَجَ الغالِبِ؛ فقدْ كانتْ قُرَيشٌ تَحلِفُ بآبائِها، ونَحوِه.
والحَلِفُ لا يكونُ إلَّا باللهِ تَعالَى، أو باسمٍ مِن أسمائِهِ الحُسْنى، أو صِفةٍ مِن صِفاتِه العُلْيا، وليس المرادُ خُصوصَ هذا اللَّفظِ، ولا يكونُ إلَّا فيما يكونُ المرءُ صادِقًا فيه؛ فالكَذِبُ مُحرَّمٌ، وإنْ حَلَف صاحِبُه عليه كان مِنَ الكَبائِرِ؛ خاصَّةً إنْ تَعلَّق به حقٌّ.
وقيلَ: إنَّ قَولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ:«وأبيكَ» لمْ يكُنْ مِن قَبيلِ الحلِفِ؛ إنَّما هو كلِمةٌ جرَتْ عادةُ العرَبِ أنْ تُدخِلَها في كَلامِها غَيرَ قاصدةٍ بها حَقيقةَ الحلِفِ، والنَّهيُ إنَّما ورَدَ فيمَن قصَدَ حَقيقةَ الحلِفِ؛ لِمَا فيه مِن إعظامِ المَحْلوفِ بِهِ، ومُضاهاتِه سُبْحانَه وتَعالَى.
ويَحتمِلُ أنْ يكونَ هذا قبْلَ النَّهيِ عنِ الحلِفِ بغَيرِ اللهِ تَعالَى.
وفي الحَديثِ: النَّهيُ عنِ الحَلفِ بالآباءِ، ويُلحَقُ بِهِ الحلِفُ بأيِّ مَخلوقٍ.