كانَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم يُحِبُّ تَنظيفَ فَمِه وأَسْنانِه بالسِّواكِ؛ لِمَا فيهِ مِن مَرْضاةِ الرَّبِّ جلَّ وعَلا؛ وتَطهيرًا وتَطييبًا للفَمِ، ولذلكَ كان يَحُثُّ على استِخْدامِه ويَأمُرُ بِه.
وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ التَّابعيُّ عبْدُ الرَّحمنِ بنُ غَنْمٍ أنَّه سَأَلَ مُعاذَ بنَ جبَلٍ رضِيَ اللهُ عنه صاحبَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عنِ استِعمالِ الصَّائمِ للسِّواكِ؛ وهو جُذورُ شَجَرِ الأَراكِ، يَستخدِمُه الإنسانُ لتَنْقيةِ أَسْنانِه وفَمِه مِن أثَرِ الطَّعامِ، ورائحةِ الفَمِ، فأجابَه مُعاذٌ رضِيَ اللهُ عنه بمَشروعيَّةِ استِعمالِه للصَّائمِ، فسَأَلَه عبْدُ الرَّحمنِ عن مَشروعيَّتِه في النَّهارِ حالَ الصِّيامِ، فبيَّنَ له مُعاذٌ رضِيَ اللهُ عنه أنَّه مَشروعٌ في جَميعِ الأَوْقاتِ في النَّهارِ، والغُدْوةِ؛ وهي أوَّلُ الصُّبْحِ، وعَشِيَّةً؛ وهي أوَّلُ المساءِ.
فأخبَرَه عبدُ الرَّحمنِ أنَّ النَّاسَ-ولعلَّ المرادَ بهم: العَوامُّ- يَكرَهونَ استِعمالَه في وَقتِ الصَّومِ؛ لظاهرِ تَعارُضِه معَ حَديثِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائمِ أَطيَبُ عندَ اللهِ مِن رِيحِ المِسْكِ»؛ والخُلوفُ هو ما يُخَلَّفُ بعْدَ الطَّعامِ في فَمِ الصَّائِمِ مِن رائِحةٍ كَريهةٍ بِخِلافِ المُعْتادِ؛ لعدَمِ تَناوُلِه شَيئًا يُغيِّرُ مِن تلكَ الرَّائحةِ، ففَهِموا أنَّ بَقاءَ تلكَ الرَّائحةِ مِن أثَرِ الصَّومِ دونَ إزالتِها بشَيءٍ-كالسِّواكِ ونَحوِه- أفضَلُ وأحسَنُ أجْرًا عندَ اللهِ؛عمَلًا بهذا الحَديثِ.
فقال مُعاذٌ رضِيَ اللهُ عنه مُتعجِّبًا مِن فَهْمِ النَّاسِ للحَديثِ، وبيَّنَ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أمَرَهم بالسِّواكِ وهو يَعلَمُ ببَقاءِ آثارٍ للرَّائحةِ الكَريهةِ في فَمِ الصَّائمِ بعْدَ الاستِياكِ، وما كان لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يأْمُرَهُم بإبقاءِ رائحةِ أَفْواهِهِم كَريهةً عن عَمْدٍ، وهناكَ مِنَ الوسائلِ الَّتي تُغيِّرُ أو تُقلِّلُ مِنَ الرَّائحةِ، كالسِّواكِ وما يُقاسُ عليه بما لا يُفسِدُ الصَّومَ، «ما في ذلكَ مِنَ الخَيرِ شَيءٌ؛ بلْ فيه شَرٌّ»؛ وذلكَ ببَقاءِ الرَّائحةِ الكَريهةِ، ولِما فيه مِن تَرْكِ سُنَّةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن عمْدٍ وجهْلٍ، وهو تَرْكُ السِّواكِ بعْدَ أنْ أمَرَ به رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، «إلَّا مَن ابتُلِيَ ببَلاءٍ لا يَجِدُ منه بُدًّا»؛ أي: ضَرورةً أو حاجةً.
وفي الحَديثِ: بَيانُ حِرْصِ التَّابعينَ على تَلقِّي العلمِ وطلَبِه مِن أصْحابِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفيه: مَشروعيَّةُ استِعمالِ السِّواكِ للصَّائمِ في كلِّ وَقتٍ.
وفيه: سُؤالُ أهْلِ العلمِ عندَ تَعارُضِ المسائلِ والمفاهيمِ.