الموسوعة الحديثية


-  قالَ لي رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ألَا تُرِيحُنِي مِن ذِي الخَلَصَةِ؟ فَقُلتُ: بَلَى، فَانْطَلَقْتُ في خَمْسِينَ ومِئَةِ فَارِسٍ مِن أحْمَسَ، وكَانُوا أصْحَابَ خَيْلٍ، وكُنْتُ لا أثْبُتُ علَى الخَيْلِ، فَذَكَرْتُ ذلكَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَضَرَبَ يَدَهُ علَى صَدْرِي حتَّى رَأَيْتُ أثَرَ يَدِهِ في صَدْرِي، وقالَ: اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ، واجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا، قالَ: فَما وقَعْتُ عن فَرَسٍ بَعْدُ، قالَ: وكانَ ذُو الخَلَصَةِ بَيْتًا باليَمَنِ لِخَثْعَمَ وبَجِيلَةَ، فيه نُصُبٌ تُعْبَدُ، يُقَالُ له: الكَعْبَةُ، قالَ: فأتَاهَا فَحَرَّقَهَا بالنَّارِ وكَسَرَهَا، قالَ: ولَمَّا قَدِمَ جَرِيرٌ اليَمَنَ، كانَ بهَا رَجُلٌ يَسْتَقْسِمُ بالأزْلَامِ، فقِيلَ له: إنَّ رَسولَ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هَاهُنَا، فإنْ قَدَرَ عَلَيْكَ ضَرَبَ عُنُقَكَ، قالَ: فَبيْنَما هو يَضْرِبُ بهَا إذْ وقَفَ عليه جَرِيرٌ، فَقالَ: لَتَكْسِرَنَّهَا ولَتَشْهَدَنَّ: أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، أوْ لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَكَ؟ قالَ: فَكَسَرَهَا وشَهِدَ، ثُمَّ بَعَثَ جَرِيرٌ رَجُلًا مِن أحْمَسَ يُكْنَى أبَا أرْطَاةَ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُبَشِّرُهُ بذلكَ، فَلَمَّا أتَى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، والذي بَعَثَكَ بالحَقِّ، ما جِئْتُ حتَّى تَرَكْتُهَا كَأنَّهَا جَمَلٌ أجْرَبُ، قالَ: فَبَرَّكَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ علَى خَيْلِ أحْمَسَ ورِجَالِهَا، خَمْسَ مَرَّاتٍ.
الراوي : جرير بن عبدالله | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح البخاري | الصفحة أو الرقم : 4357 | خلاصة حكم المحدث : [صحيح]
كان أصْحابُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في جِهادٍ دائمٍ؛ فما يَخرُجونَ مِن غَزْوةٍ إلَّا ويَستَعِدُّونَ للَّتي بعْدَها، حتَّى فتَحَ اللهُ عليهمُ البُلدانَ، ودخَلَ النَّاسُ في دِينِ اللهِ أفْواجًا.
وفي هذا الحَديثِ يَحْكي جَريرُ بنُ عبدِ اللهِ البَجَليُّ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال له: «ألَا تُريحُني مِن ذي الخَلَصةِ؟»، أي: ألَا تُريحُ قَلْبي، وما كان شَيءٌ أتعَبَ لقلْبِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن بَقاءِ ما يُشْرَك به مِن دُونِ اللهِ تعالَى، فكان بَيتًا باليَمَنِ يُشرَكُ فيه باللهِ مِن قَبيلةِ خَثْعَمَ وبَجيلةَ، وكان فيه حِجارةٌ مَنْصوبةٌ يَذبَحونَ عليها، وكانت تُعبَدُ، ويُقالُ لها: الكَعْبةُ. وخَصَّ جَريرًا بذلك؛ لأنَّها كانت في بِلادِ قَومِه، وكان هو مِن أشرْافِهم. فأجابَ جَريرٌ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنَّه سيَفعَلُ ذلك، ثمَّ انْطلَقَ جَريرٌ رَضيَ اللهُ عنه في خَمْسينَ ومِئةِ فارِسٍ مِن قَبيلةِ أحْمَسَ، وهمْ إخْوةُ بَجيلةَ قَومِ جَريرِ بنِ عبدِ اللهِ البَجَليِّ رَضيَ اللهُ عنه، ويَنتَسِبونَ إلى أحْمَسَ بنِ الغَوثِ بنِ أنْمارٍ، وبَجيلةُ امْرأةٌ تُنسَبُ إليها القَبيلةُ المَشْهورةُ، وكانوا أصْحابَ خَيلٍ، أي: لهم ثَباتٌ عليها وقُدْرةٌ على رُكوبِها، ولكنْ كان جَريرٌ رَضيَ اللهُ عنه لا يَثبُتُ على الخَيلِ، فذكَرَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عدَمَ ثَباتِه على الخَيلِ، فضرَبَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بيَدِه الشَّريفةِ على صَدرِ جَريرٍ رَضيَ اللهُ عنه، حتَّى رَأى أثَرَ أصابِعِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في صَدرِه؛ وذلك لشِدَّةِ الضَّرْبةِ، ودَعا له صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قائلًا: «اللَّهُمَّ ثَبِّتْه»، أي: على الخَيلِ، «واجْعَلْه هادِيًا» لغَيرِه، «مَهْديًّا» في نفْسِه لا يَزيغُ عنِ الحقِّ والصَّوابِ؛ فلمْ يَسقُطْ جَريرٌ بعْدَ ذلك الدُّعاءِ عن فَرسٍ رَكِبَه.
ثمَّ ذهَبَ جَريرٌ رَضيَ اللهُ عنه ومَن معَه إلى ذي الخَلَصةِ، فهَدَمَ بِناءَها، وحرَّقَ بالنَّارِ أخْشابَها. ولمَّا قدِمَ جَريرٌ اليمَنَ كان بها رَجلٌ يَستَقسِمُ بالأزْلامِ، جَمعُ زَلَمٍ، وهي الأقْلامُ أوِ القِداحُ، وهي أعْوادٌ نَحَتوها، ويَكْتُبونَ على بَعضِها: نَهاني رَبِّي، وعلى بَعضِها: أمَرَني رَبِّي، أو على بَعضِها: نَعمْ، وعلى بَعضِها: لا، فإذا أرادَ أحَدُهم سَفرًا، أو غيرَه، دَفَعوها إلى بَعضِهم حتَّى يَقبِضَها، فإنْ خرَجَ القَدَحُ الَّذي عليه: أمَرَني رَبِّي؛ مَضى، أو: نَهاني؛ كَفَّ، وقدْ نَهى اللهُ تعالَى عن هذا الفِعلِ، وقال: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ} [المائدة: 3]. فقيلَ له: «إنَّ رَسولَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هاهنا» يَقصِدونَ جَريرَ بنَ عبدِ اللهِ رَضيَ اللهُ عنه، «فإنْ قدَرَ عليكَ ضرَبَ عُنقَكَ»، يُخوِّفونَه حتَّى يَترُكَ الاسْتِقْسامَ بالأزْلامِ، وإلَّا قتَلَه جَريرٌ رَضيَ اللهُ عنه؛ لأنَّ هذا مِن أفْعالِ الجاهِليَّةِ، قال: فبيْنَما هو يَضرِبُ بالأزْلامِ، جاءَهُ جَريرٌ، فقال له جَريرٌ رَضيَ اللهُ عنه: لَتَكسِرَنَّها –يَعني الأزْلامَ- ولَتَشهَدَنَّ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، أو لأَضرِبَنَّ عُنقَكَ. قال: فكسَرَها، وشَهِدَ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ.
ثمَّ بعَثَ جَريرٌ رَجلًا مِن أحْمَسَ كُنْيتُه أبو أرْطاةَ -وهو حُصَينُ بنُ رَبيعةَ رَضيَ اللهُ عنه- إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُبشِّرُه بذلك النَّصرِ، فلمَّا أتى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قال: يا رَسولَ اللهِ، والَّذي بعَثَكَ بالحقِّ، ما جِئْتُ حتَّى تَركْتُ ذا الخَلَصةِ كأنَّها جَملٌ أجرَبُ. وذلك مِن سَوادِ الإحْراقِ وشِدَّتِه، فشبَّهَها حِينَ ذهَبَ سَقفُها وكِسوَتُها، فصارَت سَوْداءَ مِن الإحْراقِ؛ بالجَملِ الَّذي زالَ شَعرُه ونقَصَ جِلدُه مِن الجرَبِ، وصار هَزيلًا، أو قولُه كِنايةٌ عن نَزعِ زينَتِها وإذْهابِ بَهجَتِها وهَيبَتِها، فدَعا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالبَرَكةِ لخَيلِ أحْمَسَ ورِجالِها خَمسَ مَرَّاتٍ؛ مُبالَغةً منه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في الدُّعاءِ، واقتَصَرَ على عدَدِ الوِترِ في الدُّعاءِ؛ لأنَّه مَطْلوبٌ، وهي سُنَّتُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفي الحَديثِ: أنَّ مِن هَدْيِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ التَّخلُّصَ ممَّا يَفتَتِنُ به النَّاسُ مِن بِناءٍ، أو إنْسانٍ، أو حَيوانٍ، أو غَيرهِ.
وفيه: أنَّ مِن هَدْيِ السَّلفِ الصَّالحِ إرْسالَ البَشيرِ بالفُتوحِ.
وفيه: النِّكايةُ بإزالةِ الباطلِ وآثارهِ، والمُبالَغةُ في إزالتِه، والحَثُّ على إزالةِ الشِّرْكيَّاتِ.
وفيه: فَضلُ جَريرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضيَ اللهُ عنه.
وفيه: بَرَكةُ دُعاءِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفيه: أنَّ مِن هَدْيِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بَعْثَ البُعوثِ، وإرْسالَ الدُّعاةِ.