الموسوعة الحديثية


-  ما يَمْنَعُكَ أنْ تُكَلِّمَ عُثْمانَ لأخِيهِ الوَلِيدِ؟ فقَدْ أكْثَرَ النَّاسُ فِيهِ، فَقَصَدْتُ لِعُثْمانَ حتَّى خَرَجَ إلى الصَّلاةِ، قُلتُ: إنَّ لي إلَيْكَ حاجَةً، وهي نَصِيحَةٌ لَكَ، قالَ: يا أيُّها المَرْءُ -قالَ مَعْمَرٌ: أُراهُ قالَ:- أعُوذُ باللَّهِ مِنْكَ، فانْصَرَفْتُ، فَرَجَعْتُ إليهِم إذْ جاءَ رَسولُ عُثْمانَ فأتَيْتُهُ، فقالَ: ما نَصِيحَتُكَ؟ فَقُلتُ: إنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالحَقِّ، وأَنْزَلَ عليه الكِتابَ، وكُنْتَ مِمَّنِ اسْتَجابَ لِلَّهِ ولِرَسولِهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَهاجَرْتَ الهِجْرَتَيْنِ، وصَحِبْتَ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ورَأَيْتَ هَدْيَهُ، وقدْ أكْثَرَ النَّاسُ في شَأْنِ الوَلِيدِ، قالَ: أدْرَكْتَ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ قُلتُ: لا، ولَكِنْ خَلَصَ إلَيَّ مِن عِلْمِهِ ما يَخْلُصُ إلى العَذْراءِ في سِتْرِها، قالَ: أمَّا بَعْدُ؛ فإنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالحَقِّ، فَكُنْتُ مِمَّنِ اسْتَجابَ لِلَّهِ ولِرَسولِهِ، وآمَنْتُ بما بُعِثَ به، وهاجَرْتُ الهِجْرَتَيْنِ، كما قُلْتَ، وصَحِبْتُ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وبايَعْتُهُ، فَواللَّهِ ما عَصَيْتُهُ ولا غَشَشْتُهُ حتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ، ثُمَّ أبو بَكْرٍ مِثْلُهُ، ثُمَّ عُمَرُ مِثْلُهُ، ثُمَّ اسْتُخْلِفْتُ، أفليسَ لي مِنَ الحَقِّ مِثْلُ الذي لهمْ؟ قُلتُ: بَلَى، قالَ: فَما هذِه الأحادِيثُ الَّتي تَبْلُغُنِي عَنْكُمْ؟ أمَّا ما ذَكَرْتَ مِن شَأْنِ الوَلِيدِ، فَسَنَأْخُذُ فيه بالحَقِّ إنْ شاءَ اللَّهُ، ثُمَّ دَعا عَلِيًّا، فأمَرَهُ أنْ يَجْلِدَهُ، فَجَلَدَهُ ثَمانِينَ.
الراوي : المسور بن مخرمة وعبدالرحمن بن الأسود | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح البخاري | الصفحة أو الرقم : 3696 | خلاصة حكم المحدث : [صحيح]
في هذا الحَديثِ أدَبٌ عَظيمٌ مِن آدابِ مُناصَحةِ وَليِّ الأمْرِ الَّتي أُمِرْنا بها، حيث يُخبِرُ عُبَيدُ اللهِ بنُ عَدِيِّ بنِ الخِيارِ في هذا الحَديثِ أنَّ المِسْورَ بنَ مَخْرَمةَ وعبدَ الرَّحمنِ بنَ الأسوَدِ بنِ عَبدِ يَغوثَ طَلَبا منه أنْ يُكلِّمَ الخَليفةَ عُثمانَ بنَ عفَّانَ رَضيَ اللهُ عنه في أخيه لأُمِّه الوَليدِ بنِ عُقْبةَ بنِ أبي مُعَيطٍ، وكان عُثمانُ وَلَّاه الكوفةَ سَنةَ خَمسٍ وعِشرينَ بعْدَ عَزلِ سَعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ، وقولُه: «فقد أكثَرَ النَّاسُ فيه»، أي: تَناقَلَ النَّاسُ عنه أنَّه يَشرَبُ الخَمرَ، فكان المِسوَرُ وعبدُ الرَّحمنِ يُريدانِ مِن عُبَيدِ اللهِ أنْ يُكلِّمَه في إقامةِ حدِّ شُربِ الخَمرِ على الوَليدِ، وقيلَ: قولُه: «فقد أكثَرَ النَّاسُ فيه» الضَّميرُ يَرجِعُ إلى عُثمانَ، أي: أنْكَروا على عُثمانَ كَونَه لم يَحُدَّ الوَليدَ بنَ عُقْبةَ، وعزَلَ سَعدَ بنَ أبي وقَّاصٍ به، معَ كَونِ سَعدٍ أحَدَ العَشَرةِ، واجتَمَعَ له مِن الفَضلِ، والسِّنِّ، والعِلمِ، والدِّينِ، والسَّبقِ إلى الإسْلامِ؛ ما لم يتَّفِقْ منه شَيءٌ للوَليدِ بنِ عُقْبةَ.
فقال عُبَيدُ اللهِ بنُ عَديٍّ: فقَصَدْتُ لعُثمانَ حتَّى خرَجَ إلى الصَّلاةِ، وتوَجَّهْتُ إليه، وقُلتُ له: إنَّ لي إليكَ حاجةً، وهي نَصيحةٌ لكَ، فقال عُثمانُ: يا أيُّها المَرءُ، أعوذُ باللهِ منكَ، وإنَّما اسْتَعاذَ منه خَشْيةَ أنْ يُكلِّمَه بما يَقْتَضي الإنْكارَ عليه وهو في ذلك مَعْذورٌ، فيَضِيقَ صَدْرُه بذلك، أو كأنَّه مَلَّ عن وَشْيِهم فيه، فضاقَ به صَدْرُه، وظنَّه خِلافَ الواقِعَ، فاسْتَعاذَ لذلك، فانصرَفَ عُبَيدُ اللهِ مِن عندِ عُثمانَ رَضيَ اللهُ عنه، فرجَع إلى المِسْوَرِ وعَبدِ الرَّحمنِ بنِ الأسوَدِ، ولكنَّه لم يَنتَظِرْ طَويلًا حتَّى جاءَه رَسولُ عُثمانَ رَضيَ اللهُ عنه يَستَدْعيه، فذهَبَ إليه، فسَأَله عُثمانُ رَضيَ اللهُ عنه: ما نَصيحتُكَ؟ فقال له: إنَّ اللهَ سُبحانَه بعَث محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالحقِّ، وأنزَل عليه الكِتابَ، وكُنتَ ممَّنِ استَجابَ للهِ ولرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فهاجَرْتَ الهِجرَتَينِ، وهما هِجرةُ الحَبَشةِ، وهِجرةُ المَدينةِ، وصحِبْتَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ورأيْتَ هَدْيَه، أي: طَريقَه وسُنَّتَه، وقد أكثَرَ النَّاسُ -أي: الكَلامَ- في شأْنِ الوَليدِ؛ بسبَبِ شُربِه الخَمرَ، وسُوءِ سيرَتِه، فكأنَّه عتَب عليه أنْ لم يُقِمْ على الوَليدِ الحَدَّ، فسَأَل عُثمانُ رَضيَ اللهُ عنه عُبَيدَ اللهِ: هل أدرَكْتَ -أي: سمِعْتَ- رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأخذْتَ عنه؟ فأجابَه عُبَيدُ اللهِ بأنَّه لم يَسمَعْ مِن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولم يُرِدْ نَفيَ الإدْراكِ بالسِّنِّ؛ فإنَّه وُلِدَ في حياةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولكنَّه قال لعُثمانَ: ولكنْ خلَصَ إلَيَّ مِن عِلمِه ما يَخلُصُ إلى العَذْراءِ في سِتْرِها، أي: وصَل إليه مِن عِلمِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما يَصِلُ إلى البِكرِ مِن وَراءِ الحِجابِ، ووَجهُ التَّشْبيهِ بَيانُ حالِ وُصولِ عِلمِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إليه، كما وصَل عِلمُ الشَّريعةِ إلى العَذْراءِ مِن وَراءِ الحِجابِ؛ لكَونِه كان شائعًا ذائعًا، فوُصولُه إليه بطَريقِ الأوْلى؛ لحِرصِه على ذلك، ثمَّ ذكَر عُثمانُ رَضيَ اللهُ عنه ما كان منه مِن الاسْتِجابةِ لأمْرِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وهِجْرتِه معَه الهِجْرَتَينِ، وأنَّه لم يَعْصِه يَومًا، ولم يَغُشَّه، وذكَر صُحبتَه لأبي بَكرٍ وعُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما مدَّةَ حُكمِهما، وأنَّه فعَل معَهما كما فعَل معَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ثمَّ تَساءَلُ قائلًا: ألَيس لي منَ الحقِّ مِثلُ الَّذي لهم؟! وهو حقُّ السَّمعِ والطَّاعةِ فيما أمَرَ اللهُ عزَّ وجلَّ، فأجابَه عُبَيدُ اللهِ بأنَّ له مِن الحقِّ مِثلَ الَّذي كان لمَن قبلَه منَ الخَليفَتَينِ، ورَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قبْلَهما، فسَأَلَه عُثمانُ رَضيَ اللهُ عنه: فما هذه الأحاديثُ الَّتي تَبلُغُني عنكم؟! أي: لماذا تَتَكلَّمونَ عَلَيَّ بما لا يَليقُ، بسبَبِ تَأْخيرِ إقامةِ الحدِّ على الوَليدِ، وعَزلِ سَعدٍ؟! ثمَّ أخبَرَه عُثمانُ رَضيَ اللهُ عنه بأنَّه سَوف يُقيمُ الحدَّ على الوَليدِ، ودَعا عَليَّ بنَ أبي طالبٍ رَضيَ اللهُ عنه، وأمَره بجَلدِ الوَليدِ، فجلَدَه ثَمانينَ بعْدَ أنْ شَهِدَ عليه رَجلانِ.
وفي الحَديثِ: الأدَبُ معَ الأُمراءِ، واللُّطفُ بهم، ووَعْظُهم سرًّا، وتَبْليغُهم قولَ النَّاسِ فيهم؛ ليَكُفُّوا عنه.
وفيه: أنَّ الحاكِمَ يَنبَغي له تَحرِّي الحَقيقةَ فيما يصِلُ إليه منَ الشَّكاوى.