الموسوعة الحديثية


- بَعَثَنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في سَريَّةٍ، فحاصَ النَّاسُ حَيصَةً، فأَتَيْنا المدينةَ، فاختَفَيْنا بها، وقُلنا: هَلَكْنا ثم أَتَيْنا رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقُلنا: يا رسولَ اللهِ، نحن الفرَّارونَ، قال: بل أنتم العكَّارونَ، وأنا فِئَتُكم، وفي رِوايَةٍ: لا بل أنتم العكَّارونَ، قال: فدَنَوْنا، فقبَّلْنا يَدَه، فقال: أنا فِئَةُ المُسلِمينَ.
الراوي : عبدالله بن عمر | المحدث : ابن حجر العسقلاني | المصدر : هداية الرواة | الصفحة أو الرقم : 4/61 | خلاصة حكم المحدث : [حسن كما قال في المقدمة] | التخريج : أخرجه أبو داود (2647)، والترمذي (1716)، وأحمد (5384) باختلاف يسير.
الجِهادُ في سَبيلِ اللهِ ذِروةُ سَنامِ الإسلامِ، وعلى المُسلِمِ أنْ يَثبُتَ في القِتالِ والحَربِ مع جَيشِه وقائِدِه، وقد أوضَحَ الشَّرعُ أحكامَ الجِهادِ والقِتالِ، ومَتى يَستَكمِلُ الجَيشُ قِتالَه، ومتى يَنسَحِبُ لِيُجَهِّزَ لِجَولةٍ جَديدةٍ مع الأعداءِ.وفي هذا الحَديثِ يَروي عَبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بَعَثَهم في سَريَّةٍ، وسُمِّيتْ بذلك لِأنَّها كانتْ تَسْرِي في اللَّيلِ، وتُخفِي ذَهابَها، ثُمَّ أُطلِقتْ على كُلِّ قِطعةِ جَيشٍ خَرَجتْ لَيلًا أو نَهارًا، وعَدَدُها مِن مِائةٍ إلى خَمسِمِائةٍ، وقيلَ: لا حَدَّ لِأقَلِّها، ويَبلُغُ أقصاها أربَعَمِائةِ رَجُلٍ، "فحاصَ الناسُ حَيصةً" مِنَ: الحَيصِ، وهو المَيلُ، والمَعنى: مالُوا مَيلةً، فإنْ أرادَ بـ(الناسِ) أعداءَهم، فالمُرادُ بها الحَملةُ، أيْ: حَمَلوا علينا حَملةً، وجالُوا جَولةً، فانهَزَمْنا عنهم، وأتَيْنا المَدينةَ، وإنْ أرادَ أنَّ مَن حاصَ همُ السَّريَّةُ، فمَعناها الفِرارُ والرَّجعةُ، أيْ: مالوا عنِ العَدُوِّ مُلتَجِئينَ إلى المَدينةِ، فاختَفَوْا بها؛ خَشيةَ عارِ الفِرارِ مِنَ الحَربِ، وظَنُّوا أنَّهم بفِعلِهم هذا قد هَلَكوا ووَقَعوا في الخَطيئةِ التي لا تُغفَرُ، ثم ذَهَبوا إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقالوا له: "يا رَسولَ اللهِ، نحنُ الفَرَّارونَ"، يَصِفونَ أنفُسَهم بالهارِبينَ الفارِّينَ مِنَ الحَربِ والقِتالِ، فواساهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وقال لهم: "بل أنتُمُ العَكَّارونَ"، أيْ: لَستُمُ فَرَّارينَ مِنَ القِتالِ حين رَجَعتُم إلَيَّ؛ لِلاستِظهارِ والمُعاضَدةِ، بل أنتُمُ المُتَحيِّزونَ إلى فِئةِ المُسلِمينَ؛ لِتَستَظهِروا وتَتَقَوَّوا بهم، ثمَّ تَكُرُّوا عليهم، وأنا فيكم قد تَحَيَّزتُم إلَيَّ، فلا حَرَجَ عليكم في هذا الرُّجوعِ، والعَكْرُ: العَطفُ والرُّجوعُ والكَرُّ. وقَولُه: "وأنا فِئَتُكم" هو بَيانٌ لِقَولِه تَعالى: {أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} [الأنفال: 16]، والفِئةُ: الجَماعةُ الذين يَرجِعُ إليهم مَن وَلَّى عن مَوقِفِ الحَربِ؛ لِيُعاوِدَ بهمُ الهُجومَ مَرَّةً أُخرى، "وفي رِوايةٍ: لا، بل أنتُمُ العَكَّارونَ"، فاقتَرَبوا مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وقَبَّلوا يَدَه، تَقديرًا لِعَفوِه عنهم، فقال: "أنا فِئةُ المُسلِمينَ"، وهذا كُلُّه بَيانُ أنَّ الهُروبَ مِنَ الحَربِ عِندَ الضَّرورةِ وعَدَمِ استِطاعةِ مُقاوَمةِ العَدُوِّ مَشروطٌ بأنْ يَفِرَّ المُقاتِلونَ لِيَكِرُّوا بَعدَها ولِيُعيدوا خُطَطَهم وتَجهيزاتِهم مع قائِدِهم، أمَّا الهُروبُ مِنَ المَعارِكِ بسَبَبِ الخيانةِ أوِ الخَوفِ والجُبنِ، فذلك مِنَ الكَبائِرِ التي تَوَعَّدَ اللهُ صاحِبَها؛ قال تَعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال: 16].