الموسوعة الحديثية


- كنتُ جالسًا عندَ أبي هُرَيرةَ في أرضِه بالعَقيقِ، فأتاه قَومٌ، فنزَلوا عندَه. قال حُمَيدٌ: فقال: اذهَبْ إلى أُمِّي، فقُلْ: إنَّ ابنَكِ يُقرِئُكِ السَّلامَ، ويقولُ: أطعِمينا شيئًا. قال: فوَضَعَتْ ثَلاثةَ أقراصٍ في الصَّحفةِ، وشيئًا مِن زَيتٍ ومِلحٍ، ووَضَعتُها على رَأْسي، فحمَلتُها إليهم. فلمَّا وضَعتُه بيْنَ أيديهم، كبَّرَ أبو هُرَيرةَ، وقال: الحَمدُ للهِ الذي أشبَعَنا مِن الخُبزِ بعدَ أنْ لم يَكُنْ طَعامُنا إلَّا الأسوَدَينِ: التَّمرَ والماءَ. فلمْ يُصِبِ القَومُ مِن الطَّعامِ شيئًا. فلمَّا انصَرَفوا، قال: يا ابنَ أخي، أحسِنْ إلى غَنَمِكَ، وامسَحْ عنها الرُّعامَ، وأطِبْ مُراحَها، وصَلِّ في ناحيَتِها؛ فإنَّها مِن دَوابِّ الجنَّةِ، والذي نَفْسي بيَدِه، يُوشِكُ أنْ يَأتيَ على النَّاسِ زَمانٌ تَكونُ الثُّلَّةُ مِن الغَنَمِ أحَبَّ إلى صاحبِها مِن دارِ مَرْوانَ.
الراوي : حميد بن مالك بن خثيم | المحدث : شعيب الأرناؤوط | المصدر : تخريج سير أعلام النبلاء | الصفحة أو الرقم : 2/610 | خلاصة حكم المحدث : إسناده صحيح
أرشَدَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أُمَّتَه إلى كلِّ ما فيه نَفعُهم وصَلاحُ أحوالِهم في الدُّنيا والآخِرةِ، وبما يَتناسَبُ مع أحوالِ بيئَتِهم ومُجتَمَعِهم. كما في هذا الحَديثِ، حيث يقولُ التابِعيُّ حُمَيدُ بنُ مالِكٍ: "كُنتُ جالِسًا عِندَ أبي هُرَيرةَ في أرضِه بالعَقيقِ" وهو وادٍ في المَدينةِ، والعَقيقُ هو كُلُّ مَسيلِ ماءٍ شَقَّه السَّيلُ في الأرضِ فأنهَرَه وأوسَعَه "فأتاه قَومٌ، فنَزَلوا عِندَه"؛ لِلرَّاحةِ والضِّيافةِ "فقال أبو هُرَيرةَ: اذهَبْ إلى أُمِّي، فقُلْ: إنَّ ابنَكِ يُقرِئُكِ السَّلامَ" وهذا مِن أدَبِ الطَّلَبِ والاستِئذانِ، "ويَقولُ: أطعِمينا شَيئًا" أكرِمينا بشَيءٍ مِنَ الطَّعامِ والزَّادِ "قال: فوَضَعتْ ثَلاثةَ أقراصٍ"، أي: ثَلاثةَ أرغِفةٍ مِنَ الخُبزِ "في الصَّحفةِ" وهي إناءُ الطَّعامِ، "وشَيئًا مِن زَيتٍ ومِلحٍ"؛ لِلائتِدامِ بها مع الخُبزِ، وهذا مِن ضيقِ الحالِ والفَقرِ الذي كانوا عليه، إلَّا أنَّهم كانوا كُرَماءَ ويَجودونَ بما عِندَهم، "ووَضعَتْها على رأْسي، فحَمَلتُها إليهم، فلَمَّا وَضَعتُه بَينَ أيديهم"، أي: أمامَ الناسِ؛ لِيأكُلوا منها "كَبَّرَ أبو هُرَيرةَ" قال: اللهُ أكبَرُ، "وقال: الحَمدُ للهِ الذي أشبَعَنا مِنَ الخُبزِ بَعدَ أنْ لم يَكُنْ طَعامُنا إلَّا الأسوَدَيْنِ، التَّمرَ والماءَ" هذا مِن ذِكْرِ فَضلِ اللهِ عليه، إذْ كان أبو هُرَيرةَ وكَثيرٌ مِنَ الصَّحابةِ بَعدَ الهِجرةِ فُقَراءَ لا يَجِدونَ مِنَ الطَّعامِ إلَّا التَّمرَ والماءَ، وعلى قِلَّةٍ، فلَمَّا رأى القَومُ هذا الطَّعامَ غَيرَ الشَّهيِّ كأنَّهم زَهِدوا فيه، "فلم يُصِبِ القَومُ مِنَ الطَّعامِ شَيئًا" لم يأكُلوا منه، ولَعَلَّهم عافَتْه أنفُسُهم ولم يُعجِبْهم "فلَمَّا انصَرَفوا قال أبو هُرَيرةَ: يا ابنَ أخي" وهذا مِن حُسنِ الأدَبِ "أحسِنْ إلى غَنَمِكَ، وامسَحْ عنها الرُّعامَ"، يعني: امسَحْ عنها التُّرابَ، أوِ امسَحْ ما سالَ مِن أنْفِها؛ إصلاحًا لِشأنِها، ورِعايةً لها، "وأطِبْ مَراحَها" نَظِّفْ مَكانَ تَجَمُّعِها وبَياتِها "وصَلِّ في ناحِيَتِها" صَلِّ جانِبَ المَراحِ؛ "فإنَّها مِن دَوابِّ الجَنَّةِ" هي مِن حَيواناتِ الجَنَّةِ، ويَنبَغي أنْ يَعلَمَ المُسلِمُ أنَّ الطُّيورَ والحَيواناتِ التي في الجَنَّةِ لا تَتَّفِقُ مع ما في الدُّنيا إلَّا في الأسماءِ فقط، أمَّا حَقيقةُ صِفَتِها فلا يَعلَمُها إلَّا اللهُ تَعالى، غَيرَ أنَّنا نَعلَمُ أنَّها في غايةِ الجَمالِ والبَهاءِ؛ لِأنَّها مِن أنواعِ النَّعيمِ الذي أعَدَّه اللهُ تَعالى لِأوليائِه في الجَنَّةِ. ثم قال أبو هُرَيرةَ: "والذي نَفْسي بيَدِه، يوشِكُ أنْ يأتيَ على الناسِ زَمانٌ تَكونُ الثُّلَّةُ" وهي المَجموعةُ القَليلةُ "مِنَ الغَنَمِ أحَبَّ إلى صاحِبِها مِن دارِ مَروانَ" وهو مَروانُ بنُ الحَكَمِ، أميرُ المَدينةِ في ذلك الوَقتِ؛ وذلك لِأنَّه في آخِرِ الزَّمانِ تَكثُرُ الفِتَنُ ويَقِلُّ الدِّينُ؛ فتَكونُ الغَنَمُ خَيرَ مالٍ يُمكِنُ أنْ يَقتَنيَه المُؤمِنُ، فيَهرُبَ بها مع دِينِه مِنَ الفِتَنِ؛ طَلَبًا لِسَلامَتِه. وفي الحَديثِ: بَيانُ أنَّ في الجَنَّةِ حَيَواناتٍ على مِثلِ أسماءِ بَعضِ حَيَواناتِ الدُّنيا، ولكِنْ لا يَعلَمُ صِفَتَها إلَّا اللهُ سُبحانَه. وفيه: فَضلُ اتِّخاذِ الغَنَمِ، والاعتِناءِ بها.