الموسوعة الحديثية


- كان عُبَيدُ اللهِ بنُ زيادٍ يَسأَلُ عن الحَوضِ -حَوضِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- وكان يُكذِّبُ به، بعدَما سأَلَ أبا بَرْزَةَ والبراءَ بنَ عازِبٍ وعائذَ بنَ عمرٍو ورَجُلًا آخَرَ، وكان يُكذِّبُ به! فقال أبو سَبْرَةَ: أنا أحدِّثُكَ بحديثٍ فيه شفاءُ هذا؛ إنَّ أباك بعَثَ معي بمالٍ إلى مُعاويَةَ، فلقيتُ عبدَ اللهِ بنَ عمرٍو، فحدَّثَني مما سمِعَ مِن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأمْلَى علَيَّ، فكتَبْتُ بِيَدي، فلم أَزِدْ حرفًا، ولم أَنقُصْ حرفًا، حدَّثَني أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: إنَّ اللهَ لا يحِبُّ الفُحشَ -أو يُبغِضُ الفاحشَ والمتفحِّشَ-. قال: ولا تقومُ السَّاعةُ حتى يَظهَرَ الفُحشُ والتَّفاحُشُ، وقطيعةُ الرَّحِمِ، وسوءُ المجاورةِ، وحتى يؤتَمَنَ الخائنُ ويخَوَّنَ الأمينُ. وقال: ألا إنَّ مَوعدَكُمْ حَوضي، عرْضُه وطولُه واحدٌ، وهو كما بين أَيْلَةَ ومكَّةَ، وهو مَسيرةُ شهرٍ، فيه مِثلُ النُّجومِ أباريقُ، شرابُه أَشَدُّ بياضًا مِن الفِضَّةِ، مَن شرِبَ منه مَشرَبًا؛ لمْ يَظمَأْ بعدَه أبدًا. فقال عُبَيدُ اللهِ: ما سمِعْتُ في الحَوْضِ حديثًا أثبتَ مِن هذا. فصدَّقَ به، وأخَذَ الصَّحيفةَ، فحبَسَها عندَه.
الراوي : عبدالله بن عمرو | المحدث : شعيب الأرناؤوط | المصدر : تخريج المسند لشعيب | الصفحة أو الرقم : 6514 | خلاصة حكم المحدث : صحيح لغيره | التخريج : أخرجه أحمد (6514) واللفظ له، والحاكم (253)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (20/43)
مِن إكرامِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ لِنَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ جَعَلَ له حَوضًا يَومَ القِيامةِ يَسقي منه أُمَّتَه؛ مَن شَرِبَ منه شَربةً لا يَظمَأُ بَعدَها أبَدًا. وفي هذا الحَديثِ يقولُ التابِعيُّ أبو سَبرةَ سالِمُ بنُ سَلَمةَ الهُذَليُّ: "كان عُبَيدُ اللهِ بنُ زيادٍ يَسألُ عنِ الحَوضِ -حَوضِ مُحمدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-" وهو الحَوضُ الذي آتاه اللهُ سُبحانَه نَبيَّه يَومَ القِيامةِ "وكانَ يُكذِّبُ به، بَعدَما سألَ أبا بَرزةَ والبَراءَ بنَ عازِبٍ وعائِذَ بنَ عَمرٍو ورَجُلًا آخَرَ، وكان يُكذِّبُ به" وكان عُبَيدُ اللهِ أميرًا على الكُوفةِ آنَذاكَ لِيَزيدَ بنِ مُعاويةَ، وقد شَكَّ في حَوضِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فطَلَبَ الصَّحابةَ فسألَهم عنه؛ لِيَتأكَّدَ منهم؛ "فقال أبو سَبرةَ: أنا أُحدِّثُكَ بحَديثٍ فيه شِفاءُ هذا" فيُزيلُ عنكَ الشَّكَّ ويَجعَلُكَ توقِنُ بالحَوضِ، فقال له: "إنَّ أباكَ" وهو زيادُ بنُ أبي سُفيانَ، وكان واليًا على العِراقِ مِن قِبَلِ أخيه مُعاويةَ بنِ أبي سُفيانَ رَضيَ اللهُ عنه "بَعَثَ معي بمالٍ إلى مُعاويةَ" خَليفةِ المُسلِمينَ، وكان في الشَّامِ "فلَقيتُ عَبدَ اللهِ بنَ عَمرٍو، فحَدَّثَني مِمَّا سَمِعَ مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأمْلَى علَيَّ، فكَتَبتُ بيَدي، فلم أزِدْ حَرفًا، ولم أنقُصْ حَرفًا" وهذا دَليلٌ على شِدَّةِ التَّثبُّتِ والدِّقَّةِ في الكِتابةِ والنَّقلِ لِحَديثِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، "حَدَّثَني أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الفُحشَ" وهو كُلُّ ما يُستَقبَحُ مِنَ الأخلاقِ والكَلامِ، أو هو كُلُّ بَذيءٍ مِنَ القَولِ والفِعلِ "أو يُبغِضُ الفاحِشَ والمُتفَحِّشَ" وهو الناطِقُ بالفُحشِ أوِ الآتي به، وهو الزِّيادةُ على الحَدِّ في الكَلامِ أوِ الفِعلِ السَّيِّئِ، والمُتَفحِّشُ: المُتكَلِّفُ لذلك، أي: لم يَكُنْ له الفُحشُ خُلُقًا بل هو مُكتَسَبٌ، فإنَّ عاقبةَ الفُحشِ أنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ يُبغِضُه، "ولا تَقومُ الساعةُ حتى يَظهَرَ الفُحشُ والتَّفاحُشُ" مِن عَلاماتِ اقتِرابِ يَومِ القِيامةِ أنْ يَكثُرَ الخُبثُ وسُوءُ القَولِ والفِعلِ في الناسِ، "وقَطيعةُ الرَّحِمِ" والرَّحِمُ هي الصِّلةُ التي تَكونُ بَينَ الشَّخصِ وغَيرِه، والمُرادُ بها هنا: الأقارِبُ، ويُطلَقُ عليهم: أُولو الأرحامِ. "وسُوءُ المَجاوَرةِ" بإساءةِ الجيرانِ بَعضِهم إلى بَعضٍ، "وحتى يُؤتَمَنَ الخائِنُ ويُخوَّنَ الأمينُ" وهذا مِن تَبدُّلِ الأحوالِ وانقِلابِها، ومِن خِداعِ الدُّنيا؛ حيث يَنتَشِرُ الكَذِبُ والخيانةُ ويُعَدَّانِ هما الحَقيقةَ، ويَنحَصِرُ الصِّدقُ والأمانةُ فيُعَدَّانِ تَرَفًا، أو يُكذَّبُ مَن قال الصِّدقَ، ويُخوَّنُ مَن أدَّى الأمانةَ؛ لِأنهما أصبَحا نَشازًا في جَسَدٍ مَريضٍ، لا يَستَطيبُ الطَّيِّبَ، بل يَقبَلُ الخَبيثَ ويَستَسيغُه، ويَدخُلُ في تَضييعِ الأمانةِ ما كان في مَعناها مِمَّا لا يَجري على طَريقِ الحَقِّ؛ كاتِّخاذِ الجُهَّالِ عُلَماءَ عِندَ غيابِ أهلِ العِلْمِ الحَقِّ، واتِّخاذِ وُلاةِ الجَورِ، وحُكامِ الجَورِ عِندَ غَلَبةِ الباطِلِ وأهلِه. ثم قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "ألَا إنَّ مَوعِدَكم حَوضي" أنا سابِقُكم إلى الحَوضِ، نَلتَقي عِندَه يَومَ القيامةِ، وهو مَكانُ اللِّقاءِ، فأشهَدُ لكم بأعمالِكم، "عَرضُه وطولُه واحِدٌ، وهو كما بَينَ أيلةَ ومَكةَ" وهذا مِن تَقريبِ المَعنى في سَعةِ الحَوضِ يَومَ القيامةِ، وأيلةُ بَلدةٌ في آخِرِ بِلادِ الشامِ، مِمَّا يَلي البَحرَ الأحمَرَ، وهي على الساحِلِ، وهي الآنَ خَرابٌ يَمُرُّ بها الحُجَّاجُ مِن مِصرَ، فتَكونُ عن شِمالِهم، ويَمُرُّ بها الحُجَّاجُ مِن غَزَّةَ وغَيرِها فتَكونُ أمامَهم، وإليها تُنسَبُ العَقبةُ المَشهورةُ عِندَ أهلِ مِصرَ، "وهو مَسيرةُ شَهرٍ" وهذا دَليلٌ على السَّعةِ "فيه مِثلُ النُّجومِ أباريقُ" وهو مِثالٌ لِلكَثرةِ، والآنيةُ هي الأكوابُ وما يُعَدُّ مِن أدواتِ الشُّربِ على نَهَرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ "شَرابُه أشَدُّ بَياضًا مِنَ الفِضَّةِ" فهو ماءٌ صافٍ نَقيٌّ لا كَدَرَ فيه، يَلمَعُ ماؤُه أشَدَّ مِن لَمَعانِ الفِضَّةِ النَّقيَّةِ، "مَن شَرِبَ منه مَشرَبًا؛ لم يَظمَأْ بَعدَه أبَدًا"؛ لِأنَّه يُروى ويَشبَعُ مِن ماءِ الحَوضِ؛ فلا يَشعُرُ بالعَطَشِ أبَدًا، "فقال عُبَيدُ اللهِ: ما سَمِعتُ في الحَوضِ حَديثًا أثبَتَ مِن هذا" أي: أقْوَى صِحَّةً وصِدقًا في الرِّوايةِ ووُضوحِ المَعاني، "فصَدَّقَ به" فأيقَنَ بوُجودِ حَوضٍ لِلنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَومَ القِيامةِ، "وأخَذَ الصَّحيفةَ، فحَبَسَها عِندَه"؛ لِيَحتَفِظَ بالحَديثِ وما في الصَّحيفةِ مِن عِلْمٍ. وفي الحَديثِ: التَّحذيرُ مِنَ الظُّلمِ وقَطعِ الرَّحِمِ. وفيه: الحَثُّ على العَدلِ وصِلةِ الرَّحِمِ. وفيه: عَلَمٌ مِن أعلامِ النُّبوَّةِ؛ لِأنَّه عليه السَّلامُ ذَكَرَ فَسادَ أديانِ الناسِ، وتَغيُّرَ أماناتِهم، وقد ظَهَرَ كَثيرٌ مِن ذلك. وفيه: بَيانُ مَكانةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عِندَ رَبِّه.