الموسوعة الحديثية


- أنا أوَّلُ مَن أتَى عُمَرَ حينَ طُعِن، فقال: احفَظْ عنِّي ثلاثًا؛ فإنِّي أخافُ ألَّا يُدرِكَني الناسُ: أمَّا أنا، فلم أقضِ في الكَلَالَةِ قضاءً، ولم أستخلِفْ على الناسِ خليفةً، وكلُّ مملوكٍ له عتيقٌ. فقال له الناسُ: استَخلِفْ. فقال: أيَّ ذلك أفعَلُ فقد فعَلَه مَن هو خيرٌ منِّي؛ إنْ أدَعْ إلى الناسِ أمرَهم، فقد ترَكَه نبيُّ اللهِ عليه الصلاةُ والسلامُ، وإنْ أستَخلِفْ، فقد استخلَفَ مَن هو خيرٌ منِّي: أبو بَكْرٍ. فقلتُ له: أبشِرْ بالجنَّةِ؛ صاحَبتَ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأطَلْتَ صُحبتَه، ووَلِيتَ أمرَ المؤمنينَ فقَوِيتَ وأدَّيتَ الأمانةَ. فقال: أمَّا تبشيرُك إيَّايَ بالجنَّةِ، فواللهِ لو أنَّ لي -قال عفَّانُ: فلا واللهِ الذي لا إلهَ إلَّا هو، لو أنَّ لي- الدُّنيا بما فيها، لافتدَيتُ به مِن هَولِ ما أمامي قبلَ أنْ أعلَمَ الخبرَ، وأمَّا قولُك في أمرِ المؤمنينَ، فواللهِ لَوَدِدتُ أنَّ ذلك كَفَافًا، لا ليَ ولا عليَّ، وأمَّا ما ذكَرتَ مِن صُحبةِ نبيِّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فذلك.
الراوي : عمر بن الخطاب | المحدث : شعيب الأرناؤوط | المصدر : تخريج المسند لشعيب | الصفحة أو الرقم : 322 | خلاصة حكم المحدث : إسناده صحيح | التخريج : أخرجه أحمد (322) واللفظ له، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (44/425)
كان عُمرُ بنُ الخَطَّابِ رضِي اللهُ عنه مَثلًا للحاكمِ العادِلِ الذي يُحسِنُ سِياسةَ رَعيَّتِه على قواعدِ الشرعِ مع مُراعاةِ واقعِ الناسِ وتَنزيلِ الأحكامِ على أحوالِهم، وكان أحْرصَ الناس على حِفظِ الدِّينِ، حتى في آخِرِ لحَظاتِ عُمُرِه. وفي هذا الحَديثِ يَقولُ عَبدُ اللهِ بنُ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنه: "أنا أوَّلُ مَن أتَى عُمَرَ حين طُعِنَ" حين طَعَنَه أبو لُؤلُؤةَ المَجوسيُّ، وهي الطَّعنةُ التي ماتَ بها، وكان ذلك في خلافَتِه بَعدَ أبي بَكرٍ الصِّدِّيقِ رَضيَ اللهُ عنهما، فقال عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه لِابنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما: "احفَظْ عَنِّي ثَلاثًا؛ فإنِّي أخافُ ألَّا يُدرِكَني الناسُ" يُريدُ أنْ يُوصِيَه بثَلاثِ وَصايا، يُخبِرُ بها الناسَ قَبلَ أنْ تُزهَقَ رُوحُه ولا يَلحَقَه باقي الصَّحابةِ في سَماعِ تلك الوَصيَّةِ، فقال: "أمَّا أنا، فلم أقضِ في الكَلالةِ قَضاءً" وهو مَن ماتَ ولم يَدَعْ وَلَدًا ولا والِدًا، فماتَ عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه ولم يَحكُمْ بأمْرٍ في مِيراثِ الكَلالةِ، وقد كانتْ مِنَ المَسائِلِ التي راجَعَ فيها رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ولم يَستَوعِبْها عُمَرُ رَغمَ ذلك، ولكِنَّه أرادَ أنْ يُقِرَّ بمَعنى الآيةِ كما جاءَتْ، "ولم أستَخلِفْ على الناسِ خَليفةً" ولم أُحدِّدْ خَليفةً بعَينِه، ولم أُوصِ به لِيَكونَ خَليفةً لِلناسِ مِن بَعدي، "وكُلُّ مَملوكٍ له عَتيقٌ"، فجَعَلَ عُمَرُ كُلَّ مَمالِيكِه عُتَقاءَ أحرارًا بَعدَ مَوتِه، "فقال له الناسُ: استَخلِفْ" حَدِّدْ خَليفةً مِن بَعدِكَ "فقال: أيَّ ذلك أفعَلُ فقد فَعَلَه مَن هو خَيرٌ مِنِّي"، أي: إنَّ له سُنَّةً في الاستِخلافِ أو عَدَمِه، "إنْ أدَعْ إلى الناسِ أمْرَهم" لِيَختاروا خَليفَتَهم بأنْفُسِهم "فقد تَرَكَه نَبيُّ اللهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ"، وهذا الفِعلُ سُنَّةٌ عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وقدِ اختارَ الناسُ أبا بَكرٍ بَعدَه، "وإنْ أستَخلِفْ، فقدِ استَخلَفَ مَن هو خَيرٌ مِنِّي: أبو بَكرٍ"؛ فقد حَدَّدَ الخِلافةَ وأوْصى بها لِعُمَرَ مِن بَعدِه، ثم قال له ابنُ عَبَّاسٍ: "أبْشِرْ بالجَنَّةِ؛ صاحَبتَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأطَلتَ صُحبَتَه" وفَعَلتَ في صُحبَتِه مِنَ الأعمالِ الصَّالِحةِ ما جَعَلَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ راضيًا عنكَ "ووُلِّيتَ أمْرَ المُؤمِنينَ فقَويتَ" على أدائِه وحَملِه، "وأدَّيتَ الأمانةَ" فقُمتَ بأمْرِ الخِلافةِ كما يَنبَغي بالعَدلِ والقِسطِ ورِعايةِ الدِّينِ والدُّنيا لِلناسِ، "فقالَ عُمَرُ لِابنِ عَبَّاسٍ: أمَّا تَبشيرُكَ إيَّايَ بالجَنَّةِ، فوَاللهِ لو أنَّ ليَ -قال عَفَّانُ" وهو أحَدُ رُواةِ هذا الحَديثِ: "فلا واللهِ الذي لا إلهَ إلَّا هو، لو أنَّ ليَ- الدُّنيا بما فيها" وامتَلَكتُها كُلَّها "لَافتَدَيتُ به مِن هَولِ ما أمامي"، مِن شَدائِدِ يَومِ القِيامةِ والحِسابِ "قَبلَ أنْ أعلَمَ الخَبَرَ"، بمَعنى: لو طُلِبَ مِنِّي أنْ أُقدِّمَ الدُّنيا كُلَّها قَبلَ أنْ أعلَمَ خَبَرَ حِسابي ونَتيجَتَه لافتَدَيتُ بها كُلِّها. ثم قال عُمَرُ لِابنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما: "وأمَّا قَولُكَ في أمْرِ المُؤمِنينَ؛ فوَاللهِ لَوَدِدتُ أنَّ ذلك كَفافًا، لا لي ولا علَيَّ"، أي: خَرَجتُ مِنَ الدُّنيا، أو مِن مَسؤوليَّةِ أمْرِ الخِلافةِ مُتَوازِنَ الأعمالِ، والكَفافُ: هو الذي لا يَفضُلُ على الشَّيءِ، ويَكونُ بقَدْرِ الحاجةِ إليه، وقيلَ: أرادَ به مَكفوفًا عَنِّي شَرُّها، وقيلَ: مَعناه ألَّا تَنالَ مِنِّي ولا أنالَ منها، أي: أنْ تَكُفَّ عني وأكُفَّ عنها، وهذا يُؤكِّدُ قَولَه: "لا لي ولا علَيَّ". ثم قال عُمَرُ: "وأمَّا ما ذَكَرتَ مِن صُحبةِ نَبيِّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فذلك" بمَعنى كُنتُ أتَمَنَّى أنْ أسلَمَ مِن شَرِّ الخِلافةِ، وأتَمَنَّى سَلامةَ صُحبَتِي لِلنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وخُلُوَّها مِنَ الشَّرِّ. وفي الحَديثِ: أنَّ الرَّجُلَ الفاضِلَ يَنبَغي له أن يَخافَ على نَفْسِه، ولا يَثِقَ بعَمَلِه، ويَكونَ الغالِبُ عليه الخَشيةَ، ويَصغُرَ في نَفْسِه.