الموسوعة الحديثية


- كُنتُ في أصحابِ الصُّفَّةِ، فلقد رأيتُنا وما مِنَّا إنسانٌ عليه ثَوبٌ تامٌّ، وأخَذَ العَرَقُ في جُلودِنا طَرَفًا مِنَ الغُبارِ والوَسَخِ، إذ خَرَجَ علينا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال: لِيُبشِرْ فُقراءُ المُهاجِرينَ. إذْ أقبَلَ رَجُلٌ عليه شارةٌ حَسَنةٌ، فجَعَلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لا يَتكَلَّمُ بكَلامٍ إلَّا كَلَّفَتْه نَفْسُه أنْ يَأتيَ بكَلامٍ يَعلو كَلامَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فلَمَّا انصَرَفَ قال: إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ هذا وضَرْبَه؛ يَلوونَ ألسِنَتَهم لِلناسِ لَيَّ البَقَرِ لِسانَها بالمَرْعى، كذلك يَلوي اللهُ ألسِنَتَهم ووُجوهَهم في النارِ.
الراوي : واثلة بن الأسقع الليثي أبو فسيلة | المحدث : الألباني | المصدر : السلسلة الصحيحة | الصفحة أو الرقم : 7/1262 | خلاصة حكم المحدث : إسناده صحيح | التخريج : أخرجه الطبراني (22/70) (170)
مَن كَثُرَ كَلامُه كَثُرَ خَطَؤُه، ومَنِ اعتادَ ذَلِكَ فإنَّه يَصعُبُ عليه الرُّجوعُ إلى الصَّوابِ، وإلى إمساكِ لِسانِه، حتَّى إنَّه لَيتلذَّذُ بالكَلامِ، ويَتشدَّقُ بلِسانِه؛ مُستَسيغًا ومُتلذِّذًا بفَصاحَتِه وطَلاقَةِ لِسانِه. وفي هذا الحَديثِ يَقولُ أبو فَسيلةَ واثِلةُ بنُ الأسقَعِ اللَّيثيُّ رَضيَ اللهُ عنه: "كُنتُ في أصحابِ الصُّفَّةِ" وهم قَومٌ فُقراءُ مِنَ الصَّحابةِ، كانوا غُرباءَ، لا بُيوتَ لهم ولا أهلَ ولا مأوًى، وكانَ لهم في آخِرِ المَسجِدِ مَكانٌ مُخصَّصٌ، به صُفَّةٌ، أو مِظلَّةٌ يَبيتونَ تَحتَها؛ فسُمُّوا بأهلِ الصُّفَّةِ، "فلقد رأيتُنا وما مِنَّا إنسانٌ عليه ثَوبٌ تامٌّ" ليس عليه ثَوبٌ يُغطِّي جَميعَ جَسَدِه مِن شِدَّةِ فَقرِهم، "وأخَذَ العَرَقُ في جُلودِنا طَرَفًا مِنَ الغُبارِ والوَسَخِ" فتدَنَّستِ الثِّيابُ والأجسادُ باختِلاطِ العَرَقِ بالتُّرابِ، وبَينَما هم على هذه الحالِ، "إذْ خَرَجَ علينا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقالَ: لِيُبشِرْ فُقراءُ المُهاجِرينَ" وهمُ الذين هاجَروا إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قَبلَ أنْ تُفتَحَ مَكَّةُ؛ لِأنَّهم كانوا في حاجةٍ إلى العَطاءِ مِن غَيرِهم، وبَشَّرَهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بِشارةً عامَّةً دونَ تَفصيلٍ لِلخَيرِ الذي يُبشِرونَ به، "إذْ أقبَلَ رَجُلٌ عليه شارةٌ حَسَنةٌ" مِن حُسنِ المَلبَسِ والهَيئةِ "فجَعَلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لا يَتكلَّمُ بكَلامٍ إلَّا كَلَّفتْه نَفْسُه أنْ يأتيَ بكَلامٍ يَعلو كَلامَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ" كأنَّه يُقاطِعُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في كَلامِه ويَرفَعُ صَوتَه "فلَمَّا انصَرَفَ قال: إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ هذا وضَرْبَه" مَن يَكونُ مِثلَه وعلى شاكِلَتِه في الكَلامِ "يَلوونَ ألسِنَتَهم لِلناسِ لَيَّ البَقَرِ لِسانَها بالمَرعى" والمَقصودُ هنا مَن يَتكلَّفُ ويُكثِرُ الكَلامَ ويَتفاصَحُ بِه، ويَتشدَّقُ على النَّاسِ بغَيرِ الحَقِّ، ومِن كَثرةِ كَلامِه وتَشدُّقِه يُقلِّبُ لِسانَه في فَمِه وبَينَ أسنانِه، ويُفخِّمُه؛ تَلذُّذًا بالكَلامِ، كما تَستَخدِمُ البَقرةُ لِسانَها في المَرعى الذي تَرعى به، وتَنظيفِها لِأنْفِها به، وهذا التَّشبيهُ لِلتَّنفيرِ مِن كَثرةِ الكَلامِ دونَ داعٍ، ويَدخُلُ في ذلك الخُطباءُ والوُعَّاظُ والمُدرِّسونَ والثَّرثارونَ ونَحوُهم "كذلك يَلوي اللهُ ألسِنَتَهم ووجوهَهم في النارِ" وهذا تَحذيرٌ شديدٌ وبيانٌ لِلوَعيدِ الذي يَنتَظِرُهم في عَذابِ جَهنَّمَ إنْ لم يَنتَهوا عن طَريقةِ كَلامِهم هذه. وفي الحَديثِ: الزَّجرُ عن كَثرةِ الكَلامِ دونَ تَحرُّزٍ أوِ احتياطٍ، وعنِ التَّكلُّفِ المَذمومِ والتَشدُّقِ والتَّفاصُحِ.