الموسوعة الحديثية


- صلَّيتُ الغَداةَ مع عَبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ في المَسجِدِ، فلمَّا سلَّمَ قامَ رَجُلٌ، فحمِدَ اللهَ، وأَثْنى عليه، ثم قال: أمَّا بَعدُ، فواللهِ لقد بِتُّ هذه اللَّيلةَ وما في نَفْسي على أحدٍ مِنَ الناسِ حِنَةٌ، وإنِّي كنتُ استَطرَقتُ رَجُلًا مِن بَني حَنيفةَ لِفَرَسي، فأمَرَني أنْ آتيَهُ بِغَلَسٍ، وإنِّي أتَيتُهُ، فلمَّا انتهَيتُ إلى مَسجِدِ بَني حَنيفةَ، مَسجِدِ عَبدِ اللهِ بنِ النَّوَّاحةِ؛ سمِعتُ مُؤذِّنَهم وهو يَشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأنَّ مُسَيلِمةَ رسولُ اللهِ؛ فاتَّهَمتُ سَمعي، وكفَفتُ الفَرَسَ حتى سمِعتُ أهلَ المَسجِدِ اتَّفَقوا على ذلك، فما كذَّبَهُ عَبدُ اللهِ، وقال: مَن هاهنا؟ فقامَ رِجالٌ، فقال: علَيَّ بِعَبدِ اللهِ بنِ النَّوَّاحةِ وأصحابِهِ. قال حارِثةُ: فجيءَ بهم وأنا جالِسٌ، فقال عَبدُ اللهِ لابنِ النَّوَّاحةِ: وَيلَكَ! أين ما كنتَ تَقرَأُ مِنَ القُرآنِ؟ قال: كنتُ أتَّقيكم به. قال له: تُبْ. فأَبى، فأمَرَ به عَبدُ اللهِ قَرَظةَ بنَ كَعبٍ الأنصاريَّ، فأخرَجَهُ إلى السُّوقِ، فجلَدَ رَأسَهُ. قال حارِثةُ: فسمِعتُ عَبدَ اللهِ يَقولُ: مَن سَرَّهُ أنْ يَنظُرَ إلى عَبدِ اللهِ بنِ النَّوَّاحةِ قَتيلًا بالسُّوقِ فليَخرُجْ، فليَنظُرْ إليه. قال حارِثةُ: فكنتُ فيمَن خرَجَ يَنظُرُ إليه، ثم إنَّ عَبدَ اللهِ استَشارَ أصحابَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في بَقيَّةِ النَّفَرِ، فقامَ عَديُّ بنُ حاتِمٍ الطَّائيُّ، فحمِدَ اللهَ، وأَثْنى عليه، ثم قال: أمَّا بَعدُ، فثُؤْلولٌ مِنَ الكُفرِ أطلَعَ رَأسَهُ، فاحسِمْهُ، فلا يكونُ بَعدَهُ شيءٌ، وقامَ الأشعَثُ بنُ قَيسٍ وجَريرُ بنُ عَبدِ اللهِ، فقالا: بلِ استَتِبْهم، وكَفِّلْهم عَشائِرَهم. فاستَتابَهم، فتابوا، وكفَّلَهم عَشائِرَهم، ونَفاهم إلى الشَّامِ.
الراوي : حارثة بن مضرب | المحدث : شعيب الأرناؤوط | المصدر : تخريج مشكل الآثار | الصفحة أو الرقم : 11/312 | خلاصة حكم المحدث : صحيح
كان مُسَيْلِمةُ الكذَّابُ لَعَنَه اللهُ قدِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ، وأنَّه يُوحَى إليه، وأوَّلَ ما ظهَرَ أمْرُه كان في عَهدِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ثم حارَبَه أبو بَكرٍ رضِيَ اللهُ عنه في جُملةِ الحُروبِ التي كانت في عَهدِه، حتى قتَلَه وَحْشيُّ بنُ حَربٍ رضِيَ اللهُ عنه في مَعركةِ اليَمامةِ. وفي هذا الحديثِ يقولُ التابِعيُّ حارثةُ بنُ مُضَرِّبٍ: "صلَّيْتُ الغَداةَ" وهي صلاةُ الصبحِ، "معَ عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ في المَسجِدِ"، ولعلَّه يَقصِدُ مَسجدَ الكوفةِ حيثُ كان عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ واليًا عليها، "فلمَّا سلَّمَ قامَ رجُلٌ، فحَمِدَ اللهَ، وأثْنى عليه، ثم قال: أمَّا بعدُ، فواللهِ لقد بِتُّ هذه الليلةَ وما في نَفْسي على أحَدٍ منَ الناسِ حِنَةٌ" والحِنَةُ هي المُعاداةُ والحِقْدُ، أيْ: إنَّ الكَلامَ الَّذي سأَقولُه ليسَ عن عَداوةٍ شَخْصيَّةٍ، أو حِقدٍ داخِليٍّ، وذلك لِمَا سيَتَرتَّبُ على ما يقولُ من إقامةِ حدٍّ من حُدودِ الإسْلامِ وهو القَتلُ، "وإنِّي كُنْتُ استَطرَقْتُ رجُلًا من بَني حَنيفةَ لفَرَسي"، يُريدُ أنَّه طلَبَ منه حِصانَه الفَحْلَ ليُلَقِّحَ فَرَسَه، واسْتِطْرَاقُ الفَحْلِ: اسْتِعَارَتُه للضِّرابِ واللِّقاحِ، "فأمَرَني أنْ آتيَه بغَلَسٍ"، وهو ظُلمةُ آخِرِ اللَّيلِ، وبعدَ طُلوعِ الفَجرِ، "وإنِّي أتَيْتُه" على ما حدَّدَ له من مَوعدٍ، "فلمَّا انتهَيْتُ إلى مَسجدِ بَني حَنيفةَ"، وكان بالكوفةِ، وهي بَلدةٌ من بلادِ العِراقِ، "مَسجدِ عبدِ اللهِ بنِ النوَّاحةِ"، يَشتَهِرُ بإمامتِه فيه عبدُ اللهِ بنُ النوَّاحةِ، وهو الذي أتى النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ معَ رجُلٍ آخَرَ كرُسُلٍ لمُسَيْلِمةَ الكذَّابِ؛ "سَمِعْتُ مُؤذِّنَهم وهو يشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأنَّ مُسَيْلِمةَ رسولُ اللهِ"، بدَلًا من قولِه: (وأشهَدُ أنَّ محمدًا رسولُ اللهِ)، إقرارٌ منهم ومُجاهَرةٌ باتِّباعِهم مُسَيْلِمةَ؛ "فاتَّهَمْتُ سَمْعي" شكَّ فيما سَمِعَ وظنَّ أنَّه هو الذي سَمِعَ خَطأً، "وكفَفْتُ الفَرَسَ حتى سمِعْتُ أهلَ المَسجِدِ اتَّفَقوا على ذلك"، تأكَّدَ أنَّ كلَّ مَن بالمسجِدِ على تلك العَقيدةِ، "فما كذَّبَه عبدُ اللهِ" لم يُراجِعْه عبدُ اللهِ بنُ مَسعودٍ رضِيَ اللهُ عنه فيما قال، ولعلَّ ابنَ مَسعودٍ كان لدَيْه منَ القَرائنِ التي تدُلُّ على صِدق الرجُلِ في شَهادَتِه خاصَّةً بذِكْرِه ابنَ النوَّاحةِ، "وقال: مَن هاهنا؟ فقامَ رِجالٌ، فقال: عليَّ بعبدِ اللهِ بنِ النوَّاحةِ وأصحابِه"، وفي روايةِ أحمَدَ: "فأخبَرْتُه، فبعَثَ الشُّرطةَ"، قال حارثةُ: "فجِيءَ بهم، وأنا جالسٌ، فقال عبدُ اللهِ لابنِ النوَّاحةِ: وَيْلَكَ! أين ما كُنْتَ تقرَأُ منَ القُرآنِ؟" يُنكِرُ عليه ما كان عليه ابنُ النوَّاحةِ منِ استِقامةٍ وقراءةٍ للقُرآنِ دونَ تَحْريفٍ، قال ابنُ النوَّاحةِ: "كنْتُ أتَّقيكم به"، والتَّقِيَّةُ: إظْهارُ الإنسانِ خِلافَ ما يُبطِنُ، وهنا: أنَّه أظهَرَ الإسلامَ ويُبطِنُ الكُفرَ، قال له ابنُ مسعودٍ: "تُبْ" طلَبَ منه الرجوعَ والإيمانَ بالنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. "فأَبى" امتَنَعَ وأصَرَّ على كُفرِه، قال حارثةُ: "فأمَرَ به عبدُ اللهِ قَرَظةَ بنَ كَعبٍ الأنْصاريَّ" بمَعنى: أمرَ عبدُ اللهِ بنُ مَسعودٍ رضِيَ اللهُ عنه قَرَظةَ بنَ كَعبٍ ليُقيمَ عليه حدَّ القَتلِ، "فأخرَجَه إلى السوقِ، فجَلَدَ رأسَه" قَطَعَها، قال حارثةُ: "فسمِعْتُ عبدَ اللهِ يقولُ: مَن سَرَّه أنْ يَنظُرَ إلى عبدِ اللهِ بنِ النوَّاحةِ قَتيلًا بالسوقِ فلْيَخرُجْ، فلْيَنظُرْ إليه. قال حارثةُ: فكُنْتُ فيمَن خرَج يَنظُرُ إليه"، فكان ابنُ مسعودٍ رضِيَ اللهُ عنه مُستَبشِرًا وفَرِحًا بقَتلِه. وفي روايةٍ لأحمَدَ يَذكُرُ ابنُ مَسعودٍ سبَبَ قَتلِه لابنِ النوَّاحةِ: "إنِّي سمِعْتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وقدِمَ عليه هذا، وابنُ أُثالِ بنِ حَجَرٍ، فقال: «أتَشهَدانِ أنِّي رسولُ اللهِ؟» فقالا: نَشهَدُ أنَّ مُسَيْلِمةَ رسولُ اللهِ، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «آمَنْتُ باللهِ ورُسُلِه، لو كُنْتُ قاتِلًا وَفْدًا، لقتَلْتُكما»" بمَعنى: لولا أنَّ الرسُلَ لا تُقتَلُ لأمَرْتُ بقَتلِكما، وهو مَبدأٌ عامٌّ عندَ الحُكَّامِ والمُلوكِ وأقرَّهُ الإسْلامُ، "فلذلك قتَلْتُه"؛ لأنَّه قد زالَتِ العِلَّةُ الَّتي لم يَقتُلْه بها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيْه وسلَّم، وأنَّه اليومَ ليس برسولٍ. قال حارثةُ: "ثم إنَّ عبدَ اللهِ استَشارَ أصْحابَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في بقيَّةِ النفَرِ" في الحُكمِ عليهم، وهم أصحابُ عبدِ اللهِ بنِ النوَّاحةِ، "فقام عَدِيُّ بنُ حاتمٍ الطائيُّ، فحَمِدَ اللهَ، وأثْنى عليه، ثم قال: أمَّا بَعدُ، فثُؤْلولٌ منَ الكُفرِ أطْلَعَ رأسَه" الثُّؤْلولُ هو البُثْرُ الصغيرُ الذي يَظهَرُ على الجِسمِ، وهو تَشْبيهٌ لحالِ الكُفرِ إذا ظهَرَ بديارِ الإسْلامِ، وأنَّه مِثلُ الدُّمَّلِ الصغيرِ الذي إذا تُرِكَ كبُرَ وآذى الجِسمَ، "فاحْسِمْه، فلا يكونُ بَعدَه شيءٌ" بمَعنى أزِلْه فَورًا، ولا تَصبِرْ عليه، والمُرادُ: أنَّه أشارَ على ابنِ مَسعودٍ بقَتلِهم فَورًا حتى لا يَتفشَّى مرَضُهم في الأُمَّةِ، "وقام الأشعَثُ بنُ قَيسٍ وجَريرُ بنُ عبدِ اللهِ، فقالا: بلِ استَتِبْهم"، اطلُبْ مِنهمُ الرُّجوعَ إلى الإسْلامِ، "وكَفِّلْهم عَشائرَهم"، واجعَلْ ضَمانَهم على قَبائلِهم وعائلاتِهم، قال حارثةُ: "فاسْتَتابَهم، فتابوا، وكفَّلَهم عَشائرَهم، ونَفاهم إلى الشامِ"، والنفْيُ هو الإخْراجُ إلى بلادٍ بَعيدةٍ وغَريبةٍ وهو نَوعٌ منَ العُقوبةِ. وفي الحديثِ: بيانُ فِقهِ ابنِ مَسعودٍ وحُسنِ اتِّباعِه للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. وفيه: سُرعةُ الأخْذِ على يَدِ المُعْتَدي حتى لا يَفحُشَ اعْتِداؤُه. وفيه: أنَّ الإيمانَ برسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ من أركانِ الإسْلامِ، ومُنكِرُ ذلك كافرٌ. وفيه: مَشْروعيةُ اسْتِتابةِ المُرتَدِّ. وفيه: النهْيُ عن قَتلِ الرسُلِ والسُّفَراءِ.