الموسوعة الحديثية


- لمَّا حُصِرَ عُثمانُ رضِيَ اللهُ عنه في الدَّارِ أشرَفَ عليهم، فنشَدَ النَّاسَ، فقال: أتَعلَمونَ أنِّي كُنتُ مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على حِراءٍ فتَحرَّكَ، فقال: اثبُتْ حِراءُ؛ فإنَّه ليس عليكَ إلَّا نَبيٌّ أو صِدِّيقٌ أو شَهيدٌ؟ قال: فشَهِدَ له ناسٌ، ثُمَّ قال: أتَعلَمونَ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: مَن يُوسعُ لنا بَيتًا في المَسجِدِ؟ فاشْتَرَيتُ بَيتًا فأوْسَعتُ به في المَسجِدِ؟ قال: فشَهِدَ له ناسٌ، قال: أنشُدُكم باللهِ، أتَعلَمونَ أنَّ رُومةَ كانت تُباعُ بيعًا منِ ابنِ السَّبيلِ، وأنِّي اشْتَريتُها، فجَعَلتُها للهِ تَعالى وابنِ السَّبيلِ؟ قالوا: نَعم، فشَهِدَ له ناسٌ، ثُمَّ قال: أنشُدُكُم باللهِ أتَعلَمونَ أنِّي جَهَّزتُ جَيشَ العُسْرةِ، وأنْفَقتُ عليه كذا وكذا؟ فشَهِدَ له ناسٌ، ثُمَّ قال: ولكنَّه طالَ عليكم عُمري، واستَعجَلتُم قَدَري أنْ أنزِعَ سِربالًا سَربَلَنيهِ اللهُ تَعالى، لا واللهِ لا يكونُ ذلك أبدًا.
الراوي : أبو سلمة بن عبدالرحمن بن عوف | المحدث : شعيب الأرناؤوط | المصدر : تخريج سنن الدارقطني | الصفحة أو الرقم : 4442 | خلاصة حكم المحدث : صحيح
كان عُثمانُ بنُ عَفَّانَ رضِيَ اللهُ عنه مِن أفاضِلِ الصَّحابةِ رِضوانُ اللهِ عليهم جميعًا، وله مِنَ الفَضلِ في الإسلامِ ما يُشهَدُ له به، وفي هذا الحَديثِ بَيانٌ لِبَعضِ فَضائِلِه وابتلائِه؛ حيثُ يَقولُ التَّابِعيُّ أبو سَلَمةَ بنُ عَبدِ الرَّحمنِ: "لَمَّا حُصِرَ عُثمانُ رَضيَ اللهُ عنه في الدَّارِ"، أي: لَمَّا حاصَرَه الخارِجونَ على حُكمِه في دارِه في المَدينةِ "أشرَفَ عليهم فنَشَدَ الناسَ"، أي: خَرَجَ وظَهَرَ لهم فاستَحلَفَهم وطَلَبَ منهم تَصديقَ كَلامِه، فيما سيَذكُرُه مِن تَعدادِ فَضائلِه التي تدلُّ على فَضْلِه وخطأِ المُخالِفينَ والمُحاصِرينَ له وظُلمِهم إيَّاه، "فقالَ: أتَعلَمونَ أنِّي كُنتُ مع رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على حِراءٍ فتَحَرَّكَ" واهتَزَّ هذا الجَبَلُ، وحِراءٌ: جَبَلٌ بمَكَّةَ، يَبعُدُ عنها حَوالَيْ 5 كم، كانَ يَتعَبَّدُ فيه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قَبْلَ البَعثةِ، "فقالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "اثْبُتْ حِراءُ"، أي: اسْكُنْ ولا تَهتَزَّ يا حراءُ، وقد قالَ النبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ هذا القَولَ حينَ تَحرَّكَ الجَبَلُ؛ سُرورًا بقُدومِه عليه؛ "فإنَّه ليس عليكَ إلَّا نَبيٌّ أو صِدِّيقٌ أو شَهيدٌ؟"، والمُرادُ بالصِّدِّيقِ: أبو بَكرٍ، والشَّهيدُ مَجموعُ مَن كانَ مَعَه مِنَ الصَّحابةِ رَضيَ اللهُ عنهم، ومنهم عُثمانُ رَضيَ اللهُ عنه، "قالَ: فشَهِدَ له ناسٌ"، فصَدَّقوه فيما قاله، وأنَّه حَقٌّ ومَرويٌّ عنِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. ثم قالَ عثمانُ رضِيَ اللهُ عنه: "أتَعلَمونَ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ: مَن يُوَسِّعُ لنا بَيتًا في المَسجِدِ؟"، والمُرادُ به مَسجِدُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، "فاشتَرَيتُ بَيتًا" مِنَ الأرضِ المُجاوِرةِ لِلمَسجِدِ "وأوسَعتُ به في المَسجِدِ؟"، فتَصَدَّقَ بها وزادَ مِن مِساحةِ المَسجِدِ، "قالَ: فشَهِدَ له ناسٌ"؛ مُقِرِّينَ باستِشهادِه عليهم وحُجَّتِه. قالَ عثمانُ رضِيَ اللهُ عنه: "أنشُدُكم باللهِ، هل تَعلَمونَ أنَّ بِئرَ رُومةَ كانت تُباعُ بَيعًا مِنَ ابنِ السَّبيلِ، وأنا اشتَرَيتُها، فجَعَلتُها للهِ تَعالى وابنِ السَّبيلِ؟"، وبِئرُ رُومةَ لم يَكُنْ بالمَدينةِ ماءٌ عَذبٌ حُلوٌ إلَّا فيها، وهي بِئرٌ كانت لِيَهوديٍّ يَبيعُ ماءَها لِلمُسلِمينَ، كُلَّ قِربةٍ بدِرهَمٍ، فاشتَرَاها عُثمانُ رَضيَ اللهُ عنه مِن خالِصِ مالِه، ولم يُشرِكْ معه فيها أحَدًا؛ طَمَعًا في الأجْرِ، وأوقَفَها لِلمُسلِمينَ؛ على أنَّ له أنْ يَشرَبَ مِنها كما يَشرَبونَ، وقد قيلَ: إنَّه رَضيَ اللهُ عنه قدِ اشتَراها بمِئةِ ألفِ دِرهَمٍ، "قالوا: نَعَمْ. فشَهِدَ له ناسٌ"؛ مُقِرِّينَ له باستِشهادِه عليهم وحُجَّتِه. ثم قال عُثمانُ رضِيَ اللهُ عنه: "ولكنَّه طالَ عليكم عُمُري، واستَعجَلتُم قَدَري"، الذي قَدَّرَه اللهُ، ولا يَعلَمُه غَيرُه "أنْ أنزِعَ سِرْبالًا سَربَلَنيهِ اللهُ تَعالى"، والسِّربالُ: القَميصُ، وهو كِنايةٌ عن أمْرِ الخِلافةِ، التي هي مِن قَدَرِ اللهِ لي؛ "لا واللهِ، لا يَكونُ ذلك أبَدًا"، أي: لا أترُكُ أمْرَ الخِلافةِ نُزولًا على رَغبةِ الناسِ، وذلك حتى لا يَكونَ سُنَّةً لِكُلِّ مُتَمَرِّدٍ أنَّه إذا لم يُعجِبْه أميرٌ أو حاكِمٌ خَرَجَ عليه وطالَبَ بعَزلِه أو تَنحيَتِه عنِ الحُكمِ. وكانَ مَقصودُ عُثمانَ رَضيَ اللهُ عنه مِن هذه الأسئِلةِ إسماعَ مَن يُعادِيه بما له مِنَ المَكانةِ والخِدمةِ لِلإسلامِ، ودَفعًا لِاتِّهامِه مِن قِبَلِ الخارِجينَ بالتَّفريطِ في أُمورِ الحُكمِ ومُحاباةِ قَرابَتِه. وفي الحديثِ: بيانُ بعضِ فضائِلِ الخليفةِ الراشدِ عُثمانَ بنِ عفَّانَ رضِي اللهُ عنه. وفيه: إقامةُ الإمامِ الحُجَّةَ على مَن يُخالِفُه حتى يتبيَّنَ لهم الحقُّ مِن الباطِلِ. وفيه: أنَّ الفِتنةَ العمياءَ لا تُؤمَنُ نتائجُها، وربَّما يُظلَمُ فيها أهلُ الحقِّ وأهلِ الخيرِ والفضلِ.