الموسوعة الحديثية


- إنَّ صُهَيبًا حين أراد الهِجرَةَ إلى المدينةِ قال له كُفَّارُ قُرَيشٍ: أتَيتَنا صُعلوكًا فكثُر مالُكَ عِندَنا وبلَغتَ ما بلَغتَ ، ثم تُريدُ أنْ تَخرُجَ بنَفْسِكَ ومالِكَ ، واللهِ لا يكونُ ذلك ، فقال لهم: أرأيتُم إنْ أعطَيتُكم مالي أتُخَلُّونَ سَبيلي ؟ فقالوا: نَعَمْ ، فقال: أُشهِدُكم أنِّي قد جعَلتُ لكم مالي ، فبلَغ ذلك رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: رَبِحَ صُهَيبٌ رَبِحَ صُهَيبٌ
الراوي : عبدالرحمن بن مل النهدي أبو عثمان | المحدث : ابن حجر العسقلاني | المصدر : المطالب العالية | الصفحة أو الرقم : 4/287 | خلاصة حكم المحدث : صحيح
كان صُهَيبٌ الرُّوميُّ رضيَ اللهُ عنه مِن جِلَّةِ أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وقد ضرَبَ أروَعَ الأمثلةِ في التَّضحيةِ مِن أجْلِ دِينِه والثَّباتِ على الإسلامِ بالمالِ والجاهِ والنَّفسِ.
وفي هذا الحَديثِ يقولُ التَّابعيُّ أبو عُثمانَ عَبدُ الرَّحمنِ بنُ مُلٍّ النَّهديُّ: "إنَّ صُهَيبًا" وهو صُهَيبُ بنُ سِنانِ بنِ خالدِ بنِ عَبدِ عَمروٍ -مِن العَربِ- ابنِ النَّمِرِ بنِ قاسطٍ المَعروفُ بصُهَيبٍ الرُّوميِّ، وكان مِن الأوائلِ الذين أظهَروا الإسلامَ، "حينَ أرادَ الهِجرةَ" أيْ: مِن مكَّةَ "إلى المدينةِ، قال له كُفَّارُ قُرَيشٍ: أتَيتَنا صُعلوكًا" أيْ: جِئتَ إلى مكَّةَ فَقيرًا عَديمَ المالِ، "فكَثُرَ مالُكَ عندَنا وبلَغتَ ما بلَغتَ، ثم تُريدُ أنْ تَخرُجَ"! مُهاجِرًا "بنَفسِكَ ومالِكَ، واللهِ لا يكونُ ذلك"؛ وذلك أنَّ صُهَيبًا كان أبوه أو عَمُّه عامِلًا لكِسرَى على الأُبُلَّةِ بالعِراقِ، وكانتْ مَنازِلُهم بأرضِ المَوصِلِ في قَريةٍ على شَطِّ الفُراتِ، ممَّا يَلي الجَزيرةَ والمَوصِلَ، فأغارَتِ الرُّومُ على تلك النَّاحيةِ فسَبَتْ صُهَيبًا وهو غُلامٌ صَغيرٌ، فنشَأَ صُهَيبٌ بالرُّومِ حتى عرَفَ لُغَتَهم وتَكلَّمَ بها، فابتاعَتْه منهم قَبيلةُ كَلْبٍ، ثم قدِمَتْ به مكَّةَ، فاشتَراه عَبدُ اللهِ بنُ جُدْعانَ، فأعتَقَه، فأقامَ بمكَّةَ حتى هلَكَ ابنُ جُدْعانَ، فلمَّا بُعِثَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أسلَمَ هو وعَمَّارُ بنُ ياسرٍ في يومٍ واحدٍ بعدَ بِضْعةٍ وثَلاثينَ رَجُلًا، فقال لهم صُهَيبٌ رضيَ اللهُ عنه: "أرَأَيتُم إنْ أعطَيتُكم مالي أتُخَلُّونَ سَبيلي؟" فتَترُكونَني وشَأني ولا تَتعرَّضونَ لي ولا تَمنَعونَني مِن الهِجرةِ؟ "فقالوا: نعمْ، فقال: أُشهِدُكم أنِّي قد جعَلتُ لكم مالي"، فبذَلَ لهم مالَه في تَخليصِ نفْسِه؛ ابتِغاءَ ثَوابِ اللهِ تَعالى، "فبلَغَ ذلك رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ" أيْ: علِمَ ما فعَلَتْه قُرَيشٌ بصُهَيبٍ، فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "ربِحَ صُهَيبٌ، ربِحَ صُهَيبٌ!" أيْ: فازَ صُهَيبٌ في بَيعِه نفْسَه للهِ، وقد سمَّى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ذلك بَيعًا؛ لأنَّه اشتَرى نفْسَه مِن قُرَيشٍ بمالِه، وهاجَرَ في سَبيلِ اللهِ، وما خرَجَ عن فَقرٍ ولا عن حاجةٍ، بل ترَكَ المالَ، وفادى نفْسَه، وجاء مُهاجِرًا، وصدَقَ فيه قَولُه تَعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة: 207].
وفي الحَديثِ: بَيانُ فَضلِ صُهَيبٍ الرُّوميِّ رضيَ اللهُ عنه، وبيانُ مَنقَبةٍ من مَناقبِه.
وفيه: بَيانُ أنَّ الدِّينَ لا يُساويه شَيءٌ عندَ العُقلاءِ، ويُنفَقُ فيه كلُّ غالٍ ونَفيسٍ ولا يُفرَّطُ فيه .