الموسوعة الحديثية


- ثم مضى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ واستعمل على المدينةِ أبارَهم كلثومُ بنُ الحصينِ الغفاريُّ وخرج لعشرٍ مضيْنَ من رمضانَ فصام رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وصام الناسُ معه حتى إذا كان بالكديدِ _ ماءٌ بين عسفانَ وأمجٍ _ أفطرَ ثم مضى حتى نزل مرَّ الظهرانِ في عشرةِ آلافٍ من المسلمين وألفٍ من مزينةَ وسليمٍ وفي كلِّ القبائلِ عددٌ وسلاحٌ وأوعب مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ المهاجرون والأنصارُ لم يتخلف منهم أحدٌ فلما نزل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مرَّ الظهرانِ وقد عميتِ الأخبارُ على قريشٍ فلم يأتهم عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خبرٌ ولم يدروا ما هو فاعلٌ خرج في تلك الليلةِ أبو سفيانَ بنُ حربٍ وحكيمُ بنُ حزامٍ وبديلُ بنُ ورقاءَ يتجسسون وينظرون هل يجدون خبرًا أو يسمعونَ به وقد كان العباسُ بنُ عبدِ المطلبِ تلقى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في بعضِ الطريقِ وقد كان أبو سفيانَ بنُ الحارثِ بنُ عبدِ المطلبِ وعبدُ اللهِ بنُ أبي أميةَ بنُ المغيرةَ قد لقِيا رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فيما بين المدينةِ ومكةَ والتمسا الدخولَ عليه فكلَّمَتْهُ أمُّ سلمةَ فيهما فقالت يا رسولَ اللهِ ابنُ عمِّكَ وابنُ عمَّتِك وصهرُك قال لا حاجةَ لي بهما أما ابنُ عمِّي فهتكَ عِرضي بمكةَ وأما ابنُ عمَّتِي وصِهري فهو الذي قال لي بمكةَ ما قال فلما خرج إليهما بذلك ومع أبي سفيانَ بنيٌّ له فقال واللهِ لتأذنُنَّ لي أو لآخذنَّ بيدِ بُنيَّ هذا ثم لنذهبنَّ بالأرضِ حتى نموتَ عطشًا وجوعًا فلما بلغ ذلك رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ رقَّ لهما ثم أَذِنَ لهما فدخلا فأسلما فلما نزل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بمرِّ الظهرانِ قال العباسُ واصباح قريشٍ واللهِ لئن دخل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مكةَ عنوةً قبل أن يستأمنُوهُ إنَّهُ لهلاكُ قريشٍ آخرَ الدهرِ قال فجلستُ على بغلةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ البيضاءَ فخرجتُ عليها حتى جئتُ الأراكَ فقلتُ لعلِّي ألقى بعض الحطَّابةِ أو صاحبَ لبنٍ أو ذا حاجةٍ يأتي مكةَ فيُخبرهم بمكانِ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فيستأمنوهُ قبل أن يدخلها عنوةً قال فواللهِ إني لأسيرُ عليها وألتمسُ ما خرجتُ له إذ سمعتُ كلامَ أبي سفيانَ وبديلَ بنَ ورقاءَ وهما يتراجعانِ وأبو سفيانَ يقول ما رأيتُ كاليومِ قط نيرانًا ولا عسكرًا قال يقول بديلُ هذه واللهِ نيرانُ خزاعةَ حشتها الحربُ قال يقول أبو سفيانَ خزاعةُ واللهِ أذلُّ وألأمُ من أن تكون هذه نيرانُها وعسكرُها قال فعرفتُ صوتَه فقلتُ يا أبا حنظلةَ فعرف صوتي فقال أبو الفضلِ فقلتُ نعم فقال ما لك فداكَ أبي وأمي فقلتُ ويحَك يا أبا سفيانَ هذا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في الناسِ واصباح قريشٍ واللهِ قال فما الحيلةُ فداك أبي وأمي قال قلتُ لئن ظفرَ بك ليضربنَّ عُنُقَك فاركب معي هذه البغلةَ حتى آتيَ بك رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فأستأمِنُه لك قال فركب خلفي ورجع صاحباهُ وحركت به فكلما مررتُ بنارٍ من نيرانِ المسلمينَ قالوا من هذا فإذا رأوا بغلةَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالوا عمُّ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على بغلتِه حتى مررتُ بنارِ عمرَ بنِ الخطابِ فقال من هذا وقام إليَّ فلما رأى أبو سفيانَ على عجزِ البغلةِ قال أبو سفيانَ عدوُّ اللهِ الحمدُ للهِ الذي أمكنني اللهُ منك بغيرِ عقدٍ ولا عهدٍ ثم خرج يشتدُّ نحوَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وركضتِ البغلةُ فسبقَتْهُ بما تسبقُ الدابةُ الرجلَ البطيءَ فاقتحمتُ عن البغلةِ فدخلتُ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ودخل عمرُ فقال يا رسولَ اللهِ هذا أبو سفيانَ قد أمكن اللهُ منه بغيرِ عقدٍ ولا عهدٍ فدعني فلأضربَ عُنُقَه فقلتُ يا رسولَ اللهِ إني أجرتُه ثم جلستُ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقلتُ لا واللهِ لا يُناجيهِ الليلةَ رجلٌ دوني قال فلما أكثرَ عمرُ في شأنِه قلتُ مهلًا يا عمرُ أما واللهِ أن لو كان من رجالِ بني عديِّ بنِ كعبٍ ما قلتَ هذا ولكنَّك عرفتَ أنَّهُ من رجالِ بني عبدِ منافٍ فقال مهلًا يا عباسُ واللهِ لإسلامُك يومَ أسلمتَ أحبَّ إليَّ من إسلامِ أبي لو أسلمَ وما بي إلا أني قد عرفتُ أنَّ إسلامَك كان أحبَّ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ من إسلامِ الخطابِ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ اذهب به إلى رَحْلِك يا عباسُ فإذا أصبحتَ فائتني به فذهبتُ به إلى رَحْلِي فبات عندي فلما أصبح غدوتُ به على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فلما رآهُ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال ويحك يا أبا سفيانَ ألم يأنِ لك أن تشهدَ أن لا إلهَ إلا اللهُ قال بأبي أنت وأمي ما أكرمَك وأحلمَك وأوصلَك لقد ظننتُ أن لو كان مع اللهِ غيرَه لقد أغنى عني شيئًا قال ويحك يا أبا سفيانَ ألم يأنِ لك أن تعلمَ أني رسولُ اللهِ قال بأبي أنت وأمي ما أحلمَك وأكرمَك وأوصلَك هذه واللهِ كان في النفسِ منها شيٌء حتى الآنَ , قال العباسُ ويحَكَ يا أبا سفيانَ أسلِمْ واشهَدْ أن لا إلهَ إلا اللهُ وأنَّ محمدًا رسولُ اللهِ قبل أن يضربَ عُنُقَك قال فشهد شهادةَ الحقِّ وأسلمَ قلتُ يا رسولَ اللهِ إنَّ أبا سفيانَ يحبُّ هذا الفخرَ فاجعل له شيئًا قال نعم من دخل دارَ أبي سفيانَ فهو آمنٌ ومن أغلق بابَه فهو آمنٌ ومن دخل المسجدَ فهو آمنٌ فلما ذهب لينصرفَ قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يا عباسُ احبِسْهُ بالوادي عند حطمِ الجبلِ حتى تمرَّ به جنودُ اللهِ فيراها قال فخرجتُ به حتى حبستُه بمضيقِ الوادي حيث أمرني رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أن أحبسَه قال ومرَّتْ به القبائلُ على راياتها فكلما مرَّت قبيلةٌ قال من هؤلاءِ يا عباسُ فيقول بني سليمٍ فيقول ما لي ولسليمٍ قال ثم تمرُّ القبيلةُ فيقول من هؤلاءِ فأقول مزينةُ فيقول ما لي ولمزينةَ حتى نفدتِ القبائلُ يعني جاوزت لا تمرُّ قبيلةً إلا قال من هؤلاءِ فأقول بنو فلانٍ فيقول ما لي ولبني فلانٍ حتى مرَّ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في الخضراءِ فيها المهاجرون والأنصارُ لا يُرى منهم سوى الحدقُ قال سبحان اللهِ من هؤلاءِ يا عباسُ قلتُ هذا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في المهاجرين والأنصارِ قال ما لأحدٍ بهؤلاءِ قبلٌ ولا طاقةٌ واللهِ يا أبا الفضلِ لقد أصبح ملكُ ابنُ أخيكَ الغداةَ عظيمًا قلتُ يا أبا سفيانَ إنها النبوةُ قال فنِعْمَ إذًا قلتُ التجِئْ إلى قومِك قال فخرج حتى جاءهم صرخ بأعلى صوتِه يا قريشُ هذا محمدٌ قد جاءَكم بما لا قِبَلَ لكم به فمن دخل دارَ أبي سفيانَ فهو آمنٌ فقامت إليه امرأتُه هندُ بنتُ عتبةَ فأخذت بشاربِه فقالت اقتلوا الدسمَ الأحمشَ فبئس طليعةُ قومٍ قال ويحكم لا تغرَّنَّكم هذه من أنفسِكم فإنَّهُ قد جاء بما لا قِبَلَ لكم به من دخل دارَ أبي سفيانَ فهو آمنٌ قالوا ويحك وما تُغني عنا دارُك قال ومن أغلق بابَه فهو آمنٌ ومن دخل المسجدَ فهو آمنٌ فتفرَّقَ الناسُ إلى دورِهم وإلى المسجدِ
الراوي : عبدالله بن عباس | المحدث : الهيثمي | المصدر : مجمع الزوائد | الصفحة أو الرقم : 6/167 | خلاصة حكم المحدث : رجاله رجال الصحيح | التخريج : أخرجه أحمد (2392)، والطبري في ((تاريخه)) (12/81) مختصراً، والطبراني (8/11) (7264) باختلاف يسير.

أَنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ مضى لسفرةٍ وخرج لعشرٍ مضينَ من رمضانَ فصام وصام الناسُ معه حتى إذا كان بالكَديدِ أفطر ثم مضى رسولُ الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ حتى نزل مرَّ الظَّهرانِ في عشرةِ آلافٍ من المُسلمينَ فسمعتْ سُلَيمٌ ومُزينةَ فلما نزل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ مرَّ الظَّهرانِ وقد عمِيت الأخبارُ على قريشٍ فلا يأتيهم خبرُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ولا يدرون ما هو فاعلٌ وخرج في تلك الليلةِ أبو سفيانَ بنَ حربٍ وحكيمُ بن حزامٍ وبُديلُ بنُ وَرقاءَ ينظرون هل يجدون خبرًا أو يسمعونه فلما نزل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ مرَّ الظَّهرانِ قال العباسُ بنُ عبدِ المُطلبِ رضيَ اللهُ عنه قلتُ واصباحَ قريشٍ لئن دخل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ مكةَ عَنوةً قبل أن يأتوه فيستأمِنوه إنه لهلاكُ قريشٍ إلى آخرِ الدهرِ قال فجلستُ على بغلةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ البيضاءَ فخرجتُ عليها حتى دخلتُ الأراكَ فلقِيَ بعضَ الحطَّابةَ أو صاحبَ لبنٍ أو ذا حاجةٍ يأتيهم يخبرهم بمكانِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ليخرجوا إليه قال فإني لَأُشيرُ عليه وألتمِسُ ما خرجتُ له إذ سمعتُ كلامَ أبي سفيانَ وبُديلَ وهما يتراجعانِ وأبو سفيانَ يقولُ ما رأيتُ كالليلةِ نيرانًا قطُّ ولا عسكرًا قال بُديلٌ هذه واللهِ خُزاعةُ حمشَتْها الحربُ فقال أبو سفيانَ خُزاعةُ واللهِ أذلُّ من أن يكونَ هذه نيرانُهم فعرفتُ صوتَ أبي سفيانَ فقلتُ يا أبا حنظلةَ قال فعرف صوتي فقال أبو الفضلِ قال قلتُ نعم قال مالَكَ فداكَ أبي وأمي قال قلتُ ويلَكَ هذا واللهِ رسولُ اللهِ في الناسِ واصباحَ قريشٍ واللهِ لئن دخل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ مكةَ عَنوة قبل أن يأتوه فيستأمِنوه إنه لَهلاكُ قريشٍ إلى آخرِ الدهرِ قال فما الحيلةُ فداك أبي وأمي قال قلتُ لا واللهِ إلا أن تركبَ في عجُزِ هذه الدابةِ فآتي بك رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فإنه واللهِ لئن ظفر بك ليَضربَنَّ عُنقَكَ قال فركب في عُجُزِ البغلةِ ورجع صاحباه قال وكلما مررتُ بنارٍ من نيرانِ المُسلمين قالوا من هذا فإذا نظَروا قالوا عمُّ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ على بغلتِه حتى مررتُ بنارِ عمرَ بنِ الخطابِ رضيَ اللهُ عنه فقال من هذا وقام إليَّ فلما رآه على عَجُزِ الدَّابةِ عرفه وقال أبو سفيانَ عدوُّ اللهِ الحمدُ للهِ الذي أمكن منك وخرج يشتدُّ نحوَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وركضتُ البغلةَ فسبقتُه كما تسبقُ الدابةُ البطيئةُ الرجلَ البطيءَ ثم اقتحمْتُ عنِ البغلةِ ودخلتُ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وجاء عمرُ رضيَ اللهُ عنه فدخل فقال يا رسولَ اللهِ هذا أبو سفيانَ قد أمكن اللهُ منه بلا عقدٍ ولا عهدٍ فدعْني فأضربُ عُنُقَه قال قلتُ يا رسولَ اللهِ إني قد أجرْتُه قال ثم جلستُ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فأخذتُ برأسِه فقلتُ واللهِ لا يُناجِيه رجلٌ دُوني قال فلما أكثرَ عمر رضيَ اللهُ عنه في شأنه فقلتُ مهلًا يا عمرُ واللهِ لو كان رجلًا من بني عديِّ بن كعبٍ ما قلتُ هذا ولكن قد عرفتُ أنه رجلٌ من بني عبدِ منافٍ قال فقال مهلًا يا عباسُ لَإسلامُك يومَ أسلمتَ كان أحبَّ إليَّ من إسلامِ الخطابِ ومالي إلا أني قد عرفتُ أنَّ إسلامَك كان أحبَّ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ من إسلامِ الخطاب ِفقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ إِذهبْ به إلى رَحلكَ فإذا أصبحتَ فأْتِنا به قال فلما أصبحتُ غدوتُ به إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فلما رآه قال ويحك َيا أبا سفيانَ ألم يأنِ لك أن تشهدَ أن لا إله إلا اللهُ قال بأبي أنت وأمي فما أحلمَكَ وأكرمَكَ وأوصلَكَ أما واللهِ لقد كاد يقعُ في نفسي أن لو كان مع اللهِ غيرُه لقد أغنى شيئًا بعدُ وقال ويلكَ يا أبا سفيانَ ألم يأْنِ لكَ أن تشهدَ أني رسولُ اللهِ قال بأبي أنت وأُمِّي ما أحلمَك وأكرمَك وأوصلَكَ أما واللهِ هذه فإنَّ في النفسِ منها حتى الآن شيئًا قال العباسُ رضيَ اللهُ عنه قلتُ ويلَكَ أسلِمْ وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وأنَّ محمدًا رسولُ اللهِ قبل أن يُضرَبَ عُنُقُكَ قال فشهد شهادةَ الحقِّ وأسلَمُ قال العباسُ رضيَ اللهُ عنه فقلتُ يا رسولَ اللهِ إنَّ أبا سفيانَ رجلٌ يُحبُّ هذا الفخرَ فاجعلْ له شيئًا قال نعم من دخل دارَ أبي سفيانَ فهو آمِنٌ ومن أغلق عليه بابَه فهو آمِنٌ فلما ذهبتُ لأنصرفَ قال يا عباسُ احبِسْه بمَضِيقِ الوادي عند حطيِمِ الجندِ حتى يمرَّ به جنودُ اللهِ فيراها قال فحبَستُه حيث أمرني رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قال ومرَّتْ به القبائلُ على راياتِها بها فكلما مرَّتْ قبيلةٌ قال من هذه قلتُ بنو سُلَيمٍ قال يقول مالي ولبني سُلَيمٍ ثم تمرُّ به قبيلةٌ فيقول من هذه فأقول مُزَينةُ فقال مالي ولِمُزينةَ حتى نفدتِ القبائلُ لا تمرُّ به قبيلةٌ إلا سألَني عنها فأخبرُه إلا قال مالي ولبني فلانٍ حتى مرَّ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في الخضراءِ كتيبةٌ فيها المهاجرونَ والأنصارِ رضيَ اللهُ عنهم لا يُرى منهم إلا الحَدَقُ في الحديدِ فقال سبحان اللهِ من هؤلاءِ يا عباسُ قلتُ هذا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في المُهاجرينَ والأنصارِ رضيَ اللهُ عنهم فقال ما لأحدٍ بهؤلاءِ قِبِلٌ واللهِ يا أبا الفضلِ لقد أصبح ملكُ ابنِ أخيك الغداةَ عظيمًا قال قلتُ ويلك يا أبا سفيانَ إنها النبوةُ قال فنعم قال قلتُ التجأْ إلى قومِك اخرُجْ إليهم حتى إذا جاءهم صرخ بأعلى صوتِه يا معشرَ قريشٍ هذا محمدٌ قد جاءكم فيما لا قِبَلَ لكم به فمن دخل دارَ أبي سفيانَ فهو آمنٌ فقامتْ إليه هندٌ بنتُ عُتبةَ بنُ ربيعةَ فأخذتْ شاربَه فقالتْ اقتُلوا الحَمِيتَ الدَّسِمَ فبئسَ طليعةُ قومٍ قال ويلَكم لا تغرَّنَّكم هذه من أنفُسِكم وإنه قد جاء ما لا قِبَلَ لكم به من دخل دارَ أبي سفيانَ فهو آمِنٌ قالوا قاتلَك اللهُ وما يُغني غناءُ دارِك قال ومن أغلق عليه بابَه فهو آمِنٌ
الراوي : عبدالله بن عباس | المحدث : الطحاوي | المصدر : شرح معاني الآثار
الصفحة أو الرقم: 3/320 | خلاصة حكم المحدث : صحيح

التخريج : أخرجه الطبراني (8/11) (7264)، والضياء في ((الأحاديث المختارة)) (145) مطولاً باختلاف يسير، وصومه في رمضان حتى بلغ الكديد أخرجه البخاري (2953)، ومسلم (1113)


في هذا الحديثِ توضيحٌ لبَعضِ الجوانبِ مِن فتْحِ مكَّةَ، وما فعَلَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فيه؛ حيثُ يَروي عبدُ اللهِ بنُ عبَّاسٍ رضِيَ اللهُ عنهما: "أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مَضى لِسَفْرةٍ " وذلك في سفَرِه لِفَتحِ مكَّةَ عامَ ثمانيةٍ مِن الهِجرةِ، "وخرَجَ لِعَشرٍ مَضَينَ مِن رمضانَ"، أي: يومَ العاشرِ مِن رمضانَ، "فصام وصام الناسُ معه"، أي: صام وهو مُسافرٌ، وصام الناسُ لِصَومِه ولم يُفطِروا، "حتى إذا كان بالكَدِيدِ أفطَرَ" والكَدِيدُ: مكانٌ أو ماءٌ قريبٌ مِن مكَّةَ، وقد أفطَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لَمَّا رأى مَشقَّةَ الصِّيامِ على الناسِ، ووقَفَ بناقَتِه حتى تجمَّعَ الناسُ، ورأَوه، فشَرِبَ ثم شَرِبوا، وأفْطَروا لفِطْرِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، "ثم مَضَى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حتى نزَلَ مَرَّ الظَّهرانِ" وهُو وادٍ على خمْسةِ أميالٍ مِن مكَّةَ إلى جِهَةِ المدينةِ، "في عشَرةِ آلافٍ مِن المسلمينَ، فسَمِعَتْ سُلَيمٌ ومُزَينةُ" وهما قَبيلتانِ مِن قبائلِ العرَبِ، "فلمَّا نزَلَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مَرَّ الظَّهرانِ، وقد عَمِيَت الأخبارُ على قُريشٍ"، أي: خَفِيَت عليهم، "فلا يأْتِيهم خبَرُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ولا يَدْرون ما هو فاعلٌ، وخرَجَ في تلك اللَّيلةِ أبو سُفيانَ بنُ حَرْبٍ، وحَكيمُ بنُ حِزامٍ، وبُدَيلُ بنُ وَرقاءَ" وهؤلاء مِن زُعماءِ قُريشٍ وسادتِها، وكانوا حينئذٍ كفَّارًا، وقد أسْلَموا بعدُ، "يَنظُرون هل يَجِدون خبَرًا أو يَسمَعُونه؟" أي: يتَحقَّقونَ مِن الخَبرِ ومَعرفةِ ما يَنوي عليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، "فلمَّا نزَلَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مَرَّ الظَّهرانِ.
قال العبَّاسُ بنُ عبدِ المطَّلِبِ رضِيَ اللهُ عنه: قلْتُ: وا صباحَ قُريشٍ!" وهذا مِن التَّوجُّعِ والتَّفجُّعِ عليهم؛ لِمَا سيَنالُهم مِن هذا الجيشِ، "لَئنْ دخَلَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مكَّةَ عَنْوةً"، أي: قَسْرًا وبالقُوَّةِ، "قبْلَ أنْ يأْتُوه، فيَستأمِنوه، إنَّه لَهلاكُ قُريشٍ إلى آخِرِ الدَّهرِ"، أي: دَمارُهم ومَوتُهم، "قال: فجلَسْتُ"، أي: رَكِبْتُ "على بَغلةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ البيضاءِ، فخرَجْتُ عليها حتى دخَلْتُ الأراكَ"، وهو شَجرٌ مِن أشجارِ الصَّحراءِ، وهو الذي يُؤخَذُ منه السِّواكُ، "فلَقِيَ بعضَ الحطَّابةِ" الذين يَجمَعون الحطَبَ وفُروعَ الأشجارِ الجافَّةَ، "أو صاحبَ لَبَنٍ"، أي: صاحبَ ماشيةٍ أو غنَمٍ يَراعاها؛ لِتَحلِبَ اللَّبنَ، "أو ذا حاجةٍ"، أي: صاحبَ حاجةٍ، "يأْتِيهم يُخبِرُهم بمكانِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لِيَخرُجوا إليه" ومُرادُ العبَّاسِ رضِيَ اللهُ عنه أنْ يُرسِلَ رسولًا إلى قُريشٍ؛ لِيُشيرَ عليهم بالاستسلامِ لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ خوفًا عليهم مِن القتالِ الذي ربَّما فيه هلاكُهم.
قال العبَّاسُ رضِيَ اللهُ عنه: "فإنِّي لَأُشِيرُ عليه وألْتمِسُ" بمعنى أطلُبُ، "ما خرَجْتُ له"، أي: ظَلَّ يَسِيرُ وهو راكبٌ بَغْلتَه، ويُتابِعُ البحثَ، وما زالَ على تلك الحالِ، "إذ سَمِعْتُ كلامَ أبي سُفيانَ وبُدَيلٍ وهما يَتراجعانِ"، أي: يُراجِعُ كلٌّ منهما الآخَرَ في الكلامِ ويَرُدُّ عليه، "وأبو سُفيانَ يقولُ: ما رأَيْتُ كاللَّيلةِ نِيرانًا قطُّ"؛ لكَثْرَتِها "ولا عَسْكَرًا" في عَدَدِه وقُوَّتِه، "قال بُدَيلٌ: هذه واللهِ خُزاعةُ حَمَشَتها الحرْبُ"، أي: أحرَقَتْها وهيَّجَتْها، "فقال أبو سُفيانَ: خُزاعةُ -واللهِ- أذَلُّ"، أي: أحقَرُ وأقلُّ "مِن أنْ يكونَ هذه نِيرانُهم"، وهذا مِن تَباحُثِهم حولَ هذا العدَدِ مِن الناسِ ومُرادِهم؛ مِن حَرْبٍ وغيرِها، قال العبَّاسُ رضِيَ اللهُ عنه: "فعرَفْتُ صَوتَ أبي سُفيانَ، فقلْتُ: يا أبا حَنظلةَ، قال: فعرَفَ صَوتي، فقال: أبو الفضْلِ؟" وهذه كُنْيةُ العبَّاسِ بنِ عبدِ المطَّلِبِ، "قلْتُ: نعمْ، قال: ما لَكَ فِداكَ أبي وأُمِّي؟" والمعنى: ما لكَ خرَجْتَ هذه الساعةَ؟ فكأنَّك أتَيْتَ لأمْرٍ عظيمٍ، "قلْتُ: ويلكَ، هذا -واللهِ- رسولُ اللهِ في الناسِ، وا صباحَ قُريشٍ! واللهِ لَئنْ دخَلَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مكَّةَ عَنْوةً قبْلَ أنْ يَأتُوه فيَستأمِنوه، إنَّه لَهلاكُ قُريشٍ إلى آخِرِ الدَّهرِ. قال أبو سُفيانَ: "فما الحِيلةُ؟" أي: ما الوَسيلةُ للخُروجِ مِن هذا المأزَقِ؟ "فِداكَ أبي وأُمِّي" وهذا مِن الدُّعاءِ المُتعارَفِ عليه عندَ العرَبِ، "قلْتُ: لا واللهِ إلَّا أنْ تَركَبَ في عَجُزِ هذه الدابَّةِ"، أي: تَركَبُ على ظَهرِها خَلْفي، "فآتِي بك رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ فإنَّه واللهِ لَئنْ ظَفِرَ بك"، أي: أمسَكَ بك قبْلَ إسلامِك، "لَيَضرِبنَّ عُنُقَك، قال: فركِبَ في عَجُزِ البَغلةِ، ورجَعَ صاحِباهُ"، أي: رجَعَا إلى مكَّةَ، "قال: وكلَّما مرَرْتُ بنارٍ مِن نِيرانِ المسلمينَ، قالوا: مَن هذا؟ فإذا نظَروا قالوا: عمُّ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على بَغلَتِه، حتى مرَرْتُ بنارِ عمَرَ بنِ الخطَّابِ رضِيَ اللهُ عنه، فقال: مَن هذا؟ وقام إلَيَّ، فلمَّا رآهُ على عَجُزِ الدابَّةِ عرَفَه. وقال: أبو سُفيانَ عدُوُّ اللهِ، الحمْدُ للهِ الذي أمكَنَ منك، وخرَجَ يَشتَدُّ"، أي: يَجْري "نحوَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وركَضَتِ البَغلةُ فسبَقَتْه كما تَسبِقُ الدابَّةُ البطيئةُ الرجُلَ البَطِيءَ، ثم اقتَحَمْتُ عن البَغلةِ" والمعنى: نزَلَ مُسرِعًا عن البَغلةِ، "ودخَلْتُ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وجاء عمَرُ رضِيَ اللهُ عنه فدخَلَ، فقال: يا رسولَ اللهِ، هذا أبو سُفيانَ قد أمكَنَ اللهُ منه بلا عقْدٍ ولا عَهدٍ"، أي: جاء أبو سُفيانَ قبْلَ أنْ يكونَ له عندك مِيثاقٌ بالأمانِ، "فدَعْني فأضْرِبَ عُنقَه" وهذا كِنايةٌ عن قتْلِه، قال العبَّاسُ رضِيَ اللهُ عنه: "قلْتُ: يا رسولَ الله، إنِّي قد أجَرْتُه"، أي: جعَلْتُه في جِواري وحِمايتي وذِمَّتي، "ثم جلَسْتُ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فأخَذْتُ برأْسِه، فقلْتُ: واللهِ لا يُناجِيه رجُلٌ دُوني، قال: فلمَّا أكثَرَ عمُرَ رضِيَ اللهُ عنه في شأْنِه، فقلْتُ: مَهلًا يا عُمَرُ، واللهِ لو كان رجُلًا مِن بني عَدِيِّ بنِ كعْبٍ ما قلْتَ هذا، ولكنْ قد عرَفْتَ أنَّه رجُلٌ مِن بني عبْدِ مَنافٍ" يُنكِرُ على عمَرَ رضِيَ اللهُ عنه مُرادَه مِن أبي سُفيانَ، وأنَّ هذا مَرجِعُه إلى عَصبيَّةٍ قَبَليَّةٍ، فقال عُمَرُ رضِيَ اللهُ عنه للعبَّاسِ؛ رَدًّا لكلامِه: "مَهلًا يا عبَّاسُ"! أي: تَمهَّلْ في كلامِك، "لَإسلامُك يومَ أسلَمْتَ كان أحبَّ إلَيَّ مِن إسلامِ الخطَّابِ"، والمعنى: أنَّ إسلامَ العبَّاسِ كان أحبَّ لِقلْبِ عمَرَ مِن إسلامِ أبيهِ الخطَّابِ، ثم بيَّن سبَبَ حُبِّه ذلك؛ فقال: "وما لي إلَّا أنِّي قد عرَفْتُ أنَّ إسلامَك كان أحبَّ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن إسلامِ الخطَّابِ"، فبيَّن عمَرُ أنَّ كلامَه في حقِّ أبي سُفيانَ، وفي حقِّ أيِّ أحدٍ؛ إنَّما هو تبَعٌ لمَرْضاةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ للعبَّاسِ: "اذهَبْ به"، أي: بأبي سُفيانَ، "إلى رَحْلِك" وهي الخَيمةُ، "فإذا أصبَحْتَ فأْتِنا به، قال: فلمَّا أصبَحْتُ غدَوْتُ به"، أي: جِئتُ مُبكِّرًا "إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فلمَّا رآهُ قال: وَيْحَك"! وهي كلمةُ ترحُّمٍ وتوجُّعٍ، تُقال لِمَن وقَعَ في هلَكةٍ لا يَستحِقُّها، "يا أبا سُفيانَ، ألمْ يأْنِ لك أنْ تَشهَدَ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ؟!" والمعنى: ألمْ يأْتِ الوقتُ لِتُسلِمَ طواعيةً؟! "قال: بأبي أنت وأُمِّي"، أي: فِداكَ أَبي وأُمِّي، "فما أحلَمَك"! أي: ما أكثَرَ صَبرَك وحِلْمَك، "وأكرَمَك"، أي: ما أكثَرَ كرَمَك وجُودَك "وأوصَلَك"، أي: ما أكثَرَ وصْلَك لمَن قطَعَ رَحِمَك! وهذا كلُّه تعجُّبٌ مِن بعضِ فَضائلِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، "أمَا واللهِ لقد كاد"، أي: قرُبَ "يقَعُ في نَفْسي أنْ لو كان مع اللهِ غيرُه لقدْ أغْنى شيئًا بعْدُ"، أي: لو كان هناك إلهٌ مع اللهِ يُشارِكُه في مُلْكِه لَنفَعَني، "وقال: ويلكَ يا أبا سُفيانَ! ألمْ يأْنِ لك أنْ تَشهَدَ أنِّي رسولُ اللهِ؟! قال: بأبي أنتَ وأُمِّي، ما أحلَمَك وأكرَمَك وأوصَلَك! أمَّا واللهِ هذه"، أي: الدُّخولُ في الإسلامِ "فإنَّ في النَّفْسِ منها حتَّى الآنَ شيئًا"، فما زالَ أبو سُفيانَ يشُكُّ في الإسلامِ وفي رِسالةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حتى قال له العبَّاسُ رضِيَ اللهُ عنه: "وَيْلَك" والويْلُ كلمةٌ تُقالُ لِمَن وقَعَ في الهلاكِ أو لِمَن يَستحِقُّه، أو هي بِمعنى الهلاكِ، أو مَشقَّةِ العذابِ، أوِ الحُزنِ، "أسْلِمْ واشْهَدْ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأنَّ محمَّدًا رسولُ اللهِ"، أي: انطِقْ بشَهادةِ التَّوحيدِ للهِ، واشهَدْ لمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالرِّسالةِ "قبْلَ أنْ يَضرِبَ عُنُقَك" فيَقتُلَك، "قال: فشهِدَ شَهادةِ الحقِّ وأسلَمَ"، أي: دخَلَ في الإسلامِ.
قال العبَّاسُ رضِيَ اللهُ عنه: "فقلْتُ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ أبا سُفيانَ رجُلٌ يُحِبُّ هذا الفخْرَ" وهو التَّباهي بيْن الناسِ؛ "فاجعَلْ له شيئًا" يُسَرُّ به ويَفتَخِرُ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "نعمْ؛ مَن دخَلَ دارَ أبي سُفيانَ فهو آمِنٌ، ومَن أغلَقَ عليه بابَه"، أي: مَن سَدَّ عليه بابَ دارِه "فهو آمِنٌ"، أي: مَن اعتزَلَ القِتالَ ودخَلَ أيَّ هذه الدُّورِ فهو في أمانٍ، قال العبَّاسُ رضِيَ اللهُ عنه: "فلمَّا ذهَبْتُ لِأنصَرِفَ، قال: يا عبَّاسُ، احبِسْهُ"، أي: طلَبَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن العبَّاسِ أنْ يَجعَلَ أبا سُفيانَ يَنتظِرُ، "بمَضيقِ الوادي عندَ حَطِيمِ الجُندِ"، أي: في المكانِ الضَّيِّقِ الذي يكونُ فيه تَزاحمُ الجُنودِ وكَثْرتُهم، "حتى يمُرَّ به جُنودُ اللهِ فيَراها، قال: فحبَسْتُه حيث أمَرَني رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قال: ومرَّتْ به القَبائلُ على راياتِها بها، فكلَّما مرَّتْ قَبيلةٌ، قال: مَن هذه؟ قلْتُ: بنو سُلَيمٍ، قال: يقولُ: ما لي ولِبَني سُلَيمٍ؟" أي: لا شأْنَ لي بِهم، ولعلَّه يَستعظِمُ أمْرَ هذه القبائلِ أنْ تُقاتِلَها قُريشٌ وحْدَها، "ثمَّ تمُرُّ به قَبيلةٌ، فيقولُ: مَن هذه؟ فأقولُ: مُزَينةُ، فقال: ما لي ولمُزَينةَ؟" أي: لا شأْنَ لي بهم، "حتى نَفِدَتِ القَبائلُ، لا تمُرُّ به قَبيلةٌ إلَّا سأَلَني عنها، فأُخبِرُه، إلَّا قال: ما لي ولبني فُلانٍ؟ حتى مَرَّ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في الخضراءِ كَتيبةٍ فيها المهاجِرون والأنصارُ رضِيَ اللهُ عنهم لا يُرى منهم إلَّا الحَدَقُ"، أي: حَدَقُ العُيونِ ومُقدَّمُها، "في الحَديدِ" تَظهَرُ مِن خِلالِ دُروعِ الحديدِ، "فقال: سُبحانَ اللهِ! مَن هؤلاء يا عبَّاسُ؟ قلْتُ: هذا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في المهاجِرين والأنصارِ رضِيَ اللهُ عنهم، فقال: ما لِأحَدٍ بهؤلاء قِبَلٌ"، أي: ليس لِأحَدٍ قُدْرةٌ عليهم، "واللهِ يا أبا الفضْلِ، لقد أصبَحَ مُلْكُ ابنِ أخِيك الغَداةَ عظيمًا"، وهذا مِن تَبلْبُلِ فِكرِ أبي سُفيانَ في أمْرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ومِن ظَنِّه أنَّه مَلِكٌ عظيمٌ، قال العبَّاسُ: "قلْتُ: وَيلَك يا أبا سُفيانَ! إنَّها النُّبوَّةُ"؛ فبيَّنَ له العبَّاسُ أنَّ شأْنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وما وصَلَ إليه مِن القوَّةِ؛ إنَّما هو مِن أمْرِ النُّبوَّةِ والرِّسالةِ مِن اللهِ، وهو الذي نصَرَه.
قال أبو سُفيانَ رضِيَ اللهُ عنه: "فنَعمْ، قال: قلْتُ: الْتجِئْ إلى قَومِك، اخْرُجْ إليهم، حتى إذا جاءَهم صرَخَ بأعلى صَوتِه"، أي: نادَى بأعْلى صَوتِه، "يا مَعشرَ قُريشٍ، هذا محمَّدٌ قد جاءكم فيما لا قِبَلَ لكمْ به"، أي: جاءكم بجَيشٍ لا قُدْرةَ ولا قُوَّةَ لكم عليه؛ "فمَن دخَلَ دارَ أبي سُفيانَ فهو آمِنٌ"، وهذا مِن العَهدِ والفخْرِ الذي خَصَّ به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أبا سُفيانَ، "فقامَت إليه هِندُ بنتُ عُتبةَ بنِ رَبيعةَ" وهي زوجتُه، "فأخَذَتْ شارِبَه، فقالت: اقتْلُوا الحَمِيتَ الدَّسِمَ"، والمعنى: اقتُلوا هذا الرجُلَ الضَّخمَ السَّمينَ، والحَمِيتُ هو الزِّقُّ والإناءُ الذي يُوضَعُ فيه السَّمنُ ونحوُه، ويُشَبَّهُ الرجُلُ السَّمينُ الجسيمُ بالحَمِيتِ، "فبِئسَ طَليعةُ قَومٍ"، أي: هو أسْوأُ مَن يكونُ طليعةً لقَومٍ في حَرْبٍ، والطَّليعةُ: مَن يكونُ في مُقدِّمةِ الجيشِ؛ لِيَستطلِعَ أمْرَ العدُوِّ، قال أبو سُفيانَ رضِيَ اللهُ عنه: "وَيلَكم"، وهذه الكلمةُ هنا للتَّحذيرِ، "لا تَغُرَّنَّكم هذه مِن أنفُسِكم"، والمعنى: لا تُصِبْكم هذه المرأةُ بما يَغُرُّكم في قَوَّتِكم، "وإنَّه قد جاء ما لا قِبَلِ لكمْ به"، وهذا تأْكيدٌ منه بقُوَّةِ جَيشِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأنَّهم لا يَقدِرون على حَرْبِه أو رَدِّه، ثم كرَّرَ قولَه: "مَن دخَلَ دارَ أبي سُفيانَ فهو آمِنٌ، قالوا: قاتَلَكَ اللهُ، وما يُغْني غَناءُ دارِك"؛ فإنَّها لا تَكْفي لكلِّ الناسِ ولا تَسَعُهم، "قال: ومَن أغلَقَ عليه بابَه فهو آمِنٌ"، فهذا أمانٌ عامٌّ لكلِّ مَن اعتزَلَ الحرْبَ ومكَثَ في دارِه.
وفي هذا الحديثِ: بَيانُ تَيسيرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على الناسِ في السَّفرِ، وعندَ لِقاءِ العدُوِّ بالفِطرِ.
وفيه: العَفوُ عندَ المقدِرةِ، وحِرصُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على هِدايةِ الناسِ، وبُعدُ أخلاقِهِ عن الانتِقامِ .