موسوعة الفرق

الفصلُ الثَّالثُ: مِن أسبابِ التَّفرُّقِ: تقديمُ الرَّأيِ على قولِ اللهِ تعالى وقولِ رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم


طريقةُ أهلِ البِدَعِ في تلقِّي النُّصوصِ أنَّهم يُعارِضونَها بالعُقولِ كما يزعُمونَ، ويُقدِّمونَ عليها أقوالَ وآراءَ البَشرِ.
قال اللهُ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات: 1] .
عنِ الضَّحَّاكِ قال: (لا تَقضوا أمرًا دونَ اللهِ ورسولِه مِن شرائِعِ دينِكم) [181] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/364). .
وقال السَّعديُّ: (هذا مُتضمِّنٌ للأدبِ معَ اللهِ تعالى، ومعَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والتَّعظيمِ له واحتِرامِه، وإكرامِه، فأمَر اللهُ عِبادَه المُؤمنينَ بما يقتَضيه الإيمانُ باللهِ ورسولِه؛ مِن امتِثالِ أوامِرِ اللهِ، واجتِنابِ نواهيه، وأن يكونوا ماشينَ خَلفَ أوامِرِ اللهِ، مُتَّبِعينَ لسُنَّةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في جميعِ أمورِهم، وألَّا يتقدَّموا بَينَ يدَيِ اللهِ ورسولِه، ولا يقولوا حتَّى يقولَ، ولا يأمُروا حتَّى يأمُرَ؛ فإنَّ هذا حَقيقةُ الأدبِ الواجِبِ معَ اللهِ ورسولِه، وهو عُنوانُ سعادةِ العبدِ وفلاحِه، وبفواتِه تفوتُه السَّعادةُ الأبديَّةُ، والنَّعيمُ السَّرمَديُّ) [182] ((تفسير السعدي)) (ص: 799). .
وقال اللهُ سبحانَه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ [الحجرات: 2] .
قال ابنُ القيِّمِ: (إذا كان رَفعُ أصواتِهم فوقَ صوتِه سببًا لحُبوطِ أعمالِهم، فكيف تقديمُ آرائِهم وعقولِهم وأذواقِهم وسياستِهم ومعارِفِهم على ما جاء به، ورَفْعُها عليه؟! أليس هذا أَولى أن يكونَ مُحبِطًا لأعمالِهم؟!) [183] ((إعلام الموقعين)) (1/51). .
قال عُمرُ بنُ الخطَّابِ رضِي اللهُ عنه: (أصحابُ الرَّأيِ أعداءُ السُّنَنِ أعيَتهم الأحاديثُ أن يحفَظوها، وتفلَّتَت منهم أن يَعُوها، واستَحْيَوا حينَ سُئِلوا أن يقولوا: لا نعلَمُ، فعارَضوا السُّنَنَ برأيِهم؛ فإيَّاكم وإيَّاهم) [184] أخرجه ابن عبد البر في ((جامع بيان العلم وفضله)) (2003). قال ابن القيم في ((إعلام الموقعين)) (1/64): إسنادُه في غايةِ الصِّحَّةِ، وقال الألباني في ((النصيحة)) (199): رُوِي من طُرُقٍ عن عُمَرَ بعضُها منقَطِعٌ وبعضُها متَّصِلٌ، لكِنْ مجموعُها يدلُّ على ثبوتِه عن عُمَرَ. .
وقال عليُّ بنُ أبي طالِبٍ رضِي اللهُ عنه: (لو كان الدِّينُ بالرَّأيِ لكان أسفَلُ الخُفِّ أَولى بالمَسحِ مِن أعلاه) [185] أخرجه أبو داود (162)، والدارقطني (1/204)، والبيهقي (1438). صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (162)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن الدارقطني)) (1/204)، وصحَّح إسنادَه ابن حجر في ((التلخيص الحبير)) (1/251)، وجوَّده ابن كثير في ((إرشاد الفقيه)) (1/47). .
وقال عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ رضِي اللهُ عنه مُبيِّنًا خُطورةَ تقديمِ الرَّأيِ على النَّصِّ: (لا يأتي عليكم زمانٌ إلَّا وهو أشَرُّ ممَّا كان قَبلَه، أمَا إنِّي لا أقولُ: أميرٌ خيرٌ مِن أميرٍ، ولا عامٌ خيرٌ مِن عامٍ، ولكنْ فُقهاؤُكم يذهَبونَ، ثُمَّ لا تجِدونَ منهم خَلَفًا، ويجيءُ قومٌ يقيسونَ الأمورَ برأيِهم) [186] أخرجه ابن عبد البر في ((جامع بيان العلم وفضله)) (2007). حسَّن إسنادَه ابنُ حجر في ((فتح الباري)) (13/24). .
وكان مَنهَجُ الصَّحابةِ رضِي اللهُ عنهم في الفُتيا أنَّه إذا عرَضَت لأحدِهم مسألةٌ، وسُئِل عنها نظَر؛ فإن كانت في الكتابِ والسُّنَّةِ قضى، وإن لم يجِدْ فيها قولًا سأل مَن هو أعلَمُ منه: هل عندَك عِلمٌ مِن كتابٍ أو سُنَّةٍ؟ فإن لم يجِدْ جمَع أهلَ العِلمِ واستَشارهم، فإن اجتمَع رأيُهم على شيءٍ قضى به [187] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/56). .
وهذا الرَّأيُ على ثلاثةِ أقسامٍ:
القِسمُ الأوَّلُ: رأيٌ يُعينُ على فَهمِ الكتابِ والسُّنَّةِ وردِّ الأصولِ إلى الفُروعِ وإلحاقِ النَّظيرِ بنظيرِه.
وهذا هو الرَّأيُ الصَّحيحُ الحقُّ الذي لا مَندوحةَ عنه لأحدٍ مِن المُجتهِدينَ.
القِسمُ الثَّاني: الرَّأيُ الذي يُصارُ إليه إذا تعذَّر أن يجِدَ حُكمًا للواقِعةِ في الكتابِ وفي السُّنَّةِ، ولم يقُلْ به أحدٌ مِن الصَّحابةِ فحينَها يجتهِدُ العالِمُ رأيَه
وهذا النَّوعُ هو موضِعُ الاشتِباهِ، والذي سوَّغ الصَّحابةُ العملَ والفُتيا والقضاءَ به عندَ الاضطِرارِ إليه؛ حيثُ لا يوجَدُ منه بُدٌّ، وهذا الرَّأيُ لا يُعلَمُ مُخالَفتُه للكتابِ والسُّنَّةِ، ولا مُوافَقتُه لهما؛ فغايتُه أنَّه يسوغُ العملُ به عند الحاجةِ إليه، مِن غَيرِ إلزامٍ للعملِ به، ولا إنكارٍ على مَن خالَفه.
القِسمُ الثَّالثُ: الرَّأيُ المذمومُ الذي جاءت النُّصوصُ بذمِّه والنَّهيِ عنه، وعابه السَّلفُ ومنعوا مِن العَملِ والفُتيا والقضاءِ به، وهو أنواعٌ وعلى درجاتٍ؛ منها:
1- الرَّأيُ المُخالِفُ للنَّصِّ، وهو أعظَمُها جُرمًا، وهذا ممَّا يُعلَمُ بالاضطِرارِ مِن دينِ الإسلامِ فسادُه وبُطلانُه، ولا تحِلُّ الفُتيا به، وإن وقَع فيه مَن وقَع بنوعِ تأويلٍ وتقليدٍ.
2- الكلامُ في الدِّينِ بالخَرْصِ والظَّنِّ معَ التَّفريطِ والتَّقصيرِ في معرفةِ النُّصوصِ وفَهمِها واستِنباطِ الأحكامِ منها.
3- الرَّأيُ المُبتدَعُ: وهي البِدَعُ المُخالِفةُ للسُّنَنِ.
4- الانشِغالُ بحِفظِ المُعضِلاتِ والأُغلوطاتِ، وردِّ الفُروعِ والنَّوازِلِ بعضِها على بعضٍ قياسًا، دونَ ردِّها على أصولِها والنَّظرِ في عِلَلِها واعتِبارِها، أو القولُ بالرَّأيِ قَبلَ أن تنزِلَ النَّازِلةُ، وتفريعُ المسائِلِ فيها، وتشقيقُها قَبلَ أن تقعَ [188] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/53، 66، 85). .
قال ابنُ حَجَرٍ: (قال بعضُ الأئمَّةِ: والتَّحقيقُ في ذلك: أنَّ البَحثَ عمَّا لا يوجَدُ فيه نصٌّ على قِسمَينِ:
أحدُهما: أن يُبحَثَ عن دُخولِه في دَلالةِ النَّصِّ على اختِلافِ وُجوهِها؛ فهذا مطلوبٌ لا مكروهٌ، بل ربَّما كان فَرضًا على مَن تعيَّن عليه مِن المُجتهِدينَ، ثانيهما: أن يُدقِّقَ النَّظرَ في وُجوهِ الفُروقِ؛ فيُفرِّقَ بَينَ مُتماثِلَينِ بفَرقٍ ليس له أثرٌ في الشَّرعِ، معَ وُجودِ وَصفِ الجَمعِ، أو بالعَكسِ؛ بأن يجمَعَ بَينَ مُتفرِّقَينِ بوَصفٍ طَرديٍّ مَثلًا؛ فهذا الذي ذمَّه السَّلفُ، وعليه ينطبِقُ حديثُ ابنِ مسعودٍ، رفَعَه: ((هلَك المُتنَطِّعونَ )). أخرَجه مُسلِمٌ [189] أخرجه مسلم (2670). ، فرأَوا أنَّ فيه تضييعَ الزَّمانِ بما لا طائِلَ تَحتَه، ومِثلُه الإكثارُ مِن التَّفريعِ على مسألةٍ لا أصلَ لها في الكتابِ ولا السُّنَّةِ ولا الإجماعِ، وهي نادِرةُ الوُقوعِ جدًّا، فيَصرِفُ فيها زمانًا كان صَرفُه في غَيرِها أَولى، ولا سيَّما إن لزِم مِن ذلك إغفالُ التَّوسُّعِ في بيانِ ما يكثُرُ وُقوعُه، وأشَدُّ مِن ذلك في كثرةِ السُّؤالِ البَحثُ عن أمورٍ مُغيَّبةٍ ورَد الشَّرعُ بالإيمانِ بها معَ تَركِ كيفيَّتِها، ومنها ما لا يكونُ له شاهِدٌ في عالَمِ الحسِّ، كالسُّؤالِ عن وقتِ السَّاعةِ، وعن الرُّوحِ، وعن مُدَّةِ هذه الأمَّةِ، إلى أمثالِ ذلك ممَّا لا يُعرَفُ إلَّا بالنَّقلِ الصِّرفِ، والكثيرُ منه لم يثبُتْ فيه شيءٌ؛ فيجِبُ الإيمانُ به مِن غَيرِ بحثٍ، وأشَدُّ مِن ذلك ما يوقِعُ كثرةُ البحثِ عنه في الشَّكِّ والحَيرةِ) [190] ((فتح الباري)) (13/ 267). .

انظر أيضا: