موسوعة الفرق

المَبحَثُ الثَّاني: تعريفُ الافتِراقِ اصطِلاحًا


الافتِراقُ في الاصطِلاحِ يُطلَقُ على أمورٍ؛ منها:
1- التَّفرُّقُ في الدِّينِ والاختِلافُ فيه:
ومِن ذلك قولُ اللهِ تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا [آل عمران: 103] .
قال الشَّوكانيُّ: (أمَرهم سبحانَه بأن يجتَمِعوا على التَّمسُّكِ بدينِ الإسلامِ أو بالقرآنِ، ونهاهم عن التَّفرُّقِ النَّاشِئِ عن الاختِلافِ في الدِّينِ) [47] ((تفسير الشوكاني)) (1/ 421). .
ومِن ذلك أيضًا قولُ اللهِ عزَّ وجلَّ: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا [آل عمران: 105] .
قال الواحِديُّ: (قولُه: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا، يعني: اليهودَ والنَّصارى، تفرَّقوا بالعداوةِ والمُخالَفةِ، وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَّاتُ، يعني: صاروا فِرَقًا مُختلِفينَ، وكتابُهم واحِدٌ) [48] ((التفسير الوسيط)) (1/ 475). .
ومِن ذلك قولُ اللهِ سبحانَه: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [الأنعام: 159] .
قال السَّعديُّ: (يتوعَّدُ تعالى الذين فرَّقوا دينَهم، أي: شتَّتوه وتفرَّقوا فيه، وكُلٌّ أخَذ لنَفسِه نصيبًا مِن الأسماءِ التي لا تُفيدُ الإنسانَ في دينِه شيئًا؛ كاليَهوديَّةِ والنَّصرانيَّةِ والمجوسيَّةِ، أو لا يَكمُلُ بها إيمانُه؛ بأن يأخُذَ مِن الشَّريعةِ شيئًا ويجعَلَه دينَه، ويدَعَ مِثلَه أو ما هو أَولى منه، كما هو حالُ أهلِ الفُرقةِ مِن أهلِ البِدَعِ والضَّلالِ والمُفرِّقينَ للأمَّةِ، ودلَّت الآيةُ الكريمةُ أنَّ الدِّينَ يأمُرُ بالاجتِماعِ والائتِلافِ، وينهى عن التَّفرُّقِ والاختِلافِ في أهلِ الدِّينِ، وفي سائِرِ مسائِلِه الأصوليَّةِ والفُروعيَّةِ) [49] ((تفسير السعدي)) (ص: 282). .
ومِن ذلك قولُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((إنَّما هلَك مَن كان قَبلَكم باختِلافِهم في الكتابِ ))  [50] أخرجه مسلم (2666) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رَضِيَ اللهُ عنهما. .
قال النَّوويُّ: (المُرادُ بهَلاكِ مَن قَبلَنا هنا هلاكُهم في الدِّينِ بكُفرِهم وابتِداعِهم، فحذَّر رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن مِثلِ فِعلِهم) [51] ((شرح مسلم)) (16/ 218). .
2- الافتِراقُ عن جماعةِ المُسلِمينَ:
وهُم عُمومُ أمَّةِ الإسلامِ في عَهدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابِه رضِي اللهُ عنهم، وهُم أهلُ السُّنَّةِ ومَن كان على هَديِهم بَعدَ ظُهورِ الافتِراقِ؛ فمَن خالَف سَبيلَهم في أمرٍ يقتضي الخُروجَ عن أصولِهم في الاعتِقادِ، أو الشُّذوذَ عنهم في المناهِجِ، أو الخُروجَ على أئمَّتِهم، أو استِحلالَ السَّيفِ فيهم؛ فهو مُفارِقٌ، وفيه قولُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((مَن خرَج مِن الطَّاعةِ وفارَق الجماعةَ ثُمَّ مات، مات مِيتةً جاهِليَّةً، ومَن قُتِل تحتَ رايةِ عُمِّيَّةٍ، يغضَبُ للعَصَبةِ، ويُقاتِلُ للعَصَبةِ؛ فليس مِن أمَّتي، ومَن خرَج مِن أمَّتي على أمَّتي؛ يضرِبُ بَرَّها وفاجِرَها لا يتحاشَى مِن مُؤمِنِها، ولا يَفي بذي عَهدِها؛ فليس منِّي ))  [52] رواه مسلم (1848) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه.  .
قال النَّوويُّ: (فيه الأمرُ بقِتالِ مَن خرَج على الإمامِ، أو أراد تفريقَ كلمةِ المُسلِمينَ، ونَحوِ ذلك، ويُنهى عن ذلك؛ فإن لم يَنْتَهِ قوتِل، وإن لم يندفِعْ شرُّه إلَّا بقَتلِه فقُتِل، كان هَدرًا)  [53] ((شرح مسلم)) (12/ 241).  .
فالخُروجُ عن الاعتِصامِ بكتابِ اللهِ تعالى وسُنَّةِ رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كما هو مَنهَجُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ ولو في أصلٍ واحِدٍ مِن أصولِ الدِّينِ الاعتِقاديَّةِ أو العَمليَّةِ المُتعلِّقةِ بالقَطعيَّاتِ، أو بمصالِحِ الأمَّةِ العُظمى، أو بهما معًا؛ فإنَّه يُعتبَرُ تفرُّقًا. فالضَّابِطُ في الافتِراقِ أنَّه يُؤدِّي إلى الفِتَنِ، والتَّفرُّقِ، والقِتالِ، والبَغيِ، والبِدَعِ، وبذلك يتَّضِحُ أنَّ أهلَ الافتِراقِ هم أهلُ الأهواءِ والبِدَعِ.
قال ابنُ تيميَّةَ: (البِدعةُ مقرونةٌ بالفُرقةِ، كما أنَّ السُّنَّةَ مقرونةٌ بالجماعةِ، فيُقالُ: أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ، كما يُقالُ: أهلُ البِدعةِ والفُرقةِ) [54] ((الاستقامة)) (1/42). .

انظر أيضا: