المَبحَثُ الأوَّلُ: تَأويلُ نُصوصِ التَّوحيدِ بجَعلِها في وِلايةِ الأئِمَّةِ
بَدَّل غُلاةُ الشِّيعةِ مَعنى نُصوصِ القُرآنِ التي تَأمُرُ بعِبادةِ اللهِ وحدَه، إلى الإيمانِ بإمامةِ عَليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه والأئِمَّةِ مِن بَعدِه، وجَعَلوا المَقصودَ بالنُّصوصِ التي تَنهى عن الشِّركِ: الشِّركَ في وِلايةِ الأئِمَّةِ، ومِن ذلك:
1- قَولُ اللهِ سُبحانَه:
وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 65] .
فقالوا في تَفسيرِ الآيةِ: (يعني: إن أَشرَكتَ في الوِلايةِ غَيرَهـ)
.
وفي تَفسيرِ القُمِّيِّ: (لئِن أمَرتَ بوِلايةِ أحَدٍ مَعَ وِلايةِ عليٍّ مِن بَعدِك ليَحبَطنَّ عَمَلَك)
.
وقد ساقَ صاحِبُ البُرهانِ في تَفسيرِ القُرآنِ أربَعَ رِواياتٍ لهم في تَفسيرِ الآيةِ السَّابقةِ بالمَعنى المَذكورِ
.
ورَووا في سَبَبِ نُزولها: (... إنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ حَيثُ أوحى إلى نَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُقيمَ عَليًّا للنَّاسِ عَلَمًا، اندَسَّ إليه مُعاذُ بنُ جَبَلٍ فقال: أشرِكْ في وِلايتِه الأوَّلَ والثَّانيَ (يعنونَ
أبا بَكرٍ وعُمَرَ) حتَّى يسكُنَ النَّاسُ إلى قَولِك ويُصَدِّقوك، فلمَّا أنزَل اللهُ عزَّ وجَلَّ:
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة: 67] شكا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى جِبرائيلَ، فقال: إنَّ النَّاسَ يُكذِّبوني ولا يقبَلونَ مِنِّي، فأنزَل اللهُ عزَّ وجَلَّ:
لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)
.
وهذه الآيةُ الأخيرةُ وارِدةٌ في سياقٍ مُختَلفٍ؛ فقد قال اللهُ تعالى:
قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ * وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ [الزمر: 64-66] .
فالآيةُ -كما هو واضِحٌ مِن سياقِها- تَتَعلَّقُ بتَوحيدِ اللهِ تعالى في عِبادَتِه، وليسَت مُتَعَلِّقةً بعَليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، وليسَ له ذِكرٌ في الآيةِ أصلًا، فكأنَّهم جَعَلوه هو المُعَبَّرَ عنه بلفظِ الجَلالةِ (اللهُ)، وجَعَلوا العِبادةَ هي الوِلايةَ، والآيةُ واضِحةُ المَعنى بَيِّنةُ الدَّلالةِ، وليسَ بَيْنَ مَعناها الظَّاهرِ الصَّحيحِ وتَأويلِهم المَذكورِ أدنى صِلةٍ.
2- قَولُ اللهِ سُبحانَه:
ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا [غافر: 12] .
هذه الآيةُ -كما هو واضِحٌ- تُبَيِّنُ ما عليه أهلُ الشِّركِ مِن إعراضٍ عن عُبوديَّةِ اللهِ وحدَه، وهي جَوابٌ للمُشرِكينَ حينَ طَلبوا الخُروجَ مِنَ النَّارِ، والرَّجعةَ إلى الدُّنيا، فقالوا:
فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ؟ فكان جوابُهم
ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ أي: ذلك الذي أنتم فيه مِنَ العَذابِ بسَبَبِ أنَّه إذا دُعيَ اللهُ في الدُّنيا وحدَه دونَ غَيرِه كفرتُم به، وتَرَكتُم تَوحيدَه
وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ غيرَه من الأصنامِ
تُؤْمِنُوا بالإشراكِ به، وتُجيبوا الدَّاعيَ إليه، فبَيَّنَ سُبحانَه لهم السَّبَبَ الباعِثَ على عَدَمِ إجابَتِهم إلى الخُروجِ مِنَ النَّارِ، وهو ما كانوا فيه مِن تَركِ تَوحيدِ اللهِ وإشراكِ غَيرِه به في العِبادةِ التي رَأسُها الدُّعاءُ
.
ولكِنَّ الشِّيعةَ نَسَبوا إلى أئِمَّتِهم في تَأويلِ الآيةِ غَيرَ ذلك، فرَوَوا عن أبي جَعفرٍ في قَولِه عَزَّ وجَلَّ:
ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ بأنَّ لعليٍّ ولايةً،
وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ مَن ليست له ولايةٌ
.
ومَعلومٌ أنَّ هذا التَّأويلَ مِن جِنسِ تَأويلاتِ الباطِنيَّةِ؛ إذ لا دَلالةَ عليه مِن لفظِ الآيةِ ولا سياقِها مُطلقًا، والمُفسِّرُ الشِّيعيُّ الطَّبَرسيُّ أعرَضَ عن تَأويلاتِ طائِفتِه، وفسَّرَ الآيةَ بمُقتَضى ظاهرِها، وهو ما قاله السَّلَفُ في تَفسيرِها
.
3- قَولُ اللهِ عزَّ وجَلَّ:
أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [النمل: 61] .
رَوى الشِّيعةُ عن
جَعفرٍ الصَّادِقِ أنَّه قال في تَفسيرِ هذه الآيةِ: (أي إمامُ هُدًى مَعَ إمامِ ضَلالٍ في قَرَنٍ واحِدٍ)
.
والحَقُّ أنَّ الآيةَ لا صِلةَ لها بعَليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، بل هي لتَقريرِ وحدانيَّةِ اللهِ سُبحانَه؛ فاللهُ جَلَّ شَأنُه قال:
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ، أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ الآيات
[النمل: 59-60] .
واللهُ تعالى يقولُ في آخِرِ كُلِّ آيةٍ:
أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ أي: أإلهٌ مَعَ اللهِ فَعَل هذا؟ وهذا استِفهامُ إنكارٍ يتَضَمَّنُ نَفيَ ذلك، وهم كانوا مُقِرِّينَ بأنَّه لم يفعَلْ ذلك غَيرُ اللهِ؛ فاحتَجَّ عليهم بهذا الإقرارِ؛ إذ يستَلزِمُ ألَّا يُعبَدَ إلَّا اللهُ وَحدَه
.
4- قال اللهُ تعالى:
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25] .
وهذه آيةٌ واضِحةٌ في تَقريرِ توحيدِ الأُلوهيَّةِ، ولكِنَّ الشِّيعةَ الإماميَّةَ فسَّروها بقَولِهم: (ما بَعَثَ اللهُ نَبيًّا قَطُّ إلَّا بوِلايتِنا والبَراءِ مِن أعدائِنا)
.
وفي رِوايةٍ أُخرى: (وِلايتُنا وِلايةُ اللهِ التي لم يَبعَثْ نَبيًّا قَطُّ إلَّا بها
.
فجَعَلوا إمامةَ الأئِمَّةِ هو أصلَ دَعوةِ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ مِن أوَّلِهم إلى آخِرِهم!
ورِواياتُهم في تَأويلِ نُصوصِ التَّوحيدِ والنَّهيِ عن الشِّركِ بهذا المَعنى كثيرةٌ عِندَهم، وقد جَعَل أبو الحَسَنِ العامِليُّ هذا التَّأويلَ قاعِدةً مُطَّرِدةً في القُرآنِ، فقال: كُلُّ ما ورَدَ ظاهِرُه في الذينَ أشرَكوا مَعَ اللهِ سُبحانَه رَبًّا غَيرَه مِنَ الأصنامِ التي صَنَعوها بأيديهم ثُمَّ عَظَّموها وأحَبُّوها والتَزَموا عِبادَتَها وجَعَلوهم شُرَكاءَ رَبِّهم، وقالوا: هؤلاء شُفعاؤُنا عِندَ اللهِ، بغَيرِ أمرٍ مِنَ اللهِ، بل بآرائِهم وأهوائِهم، فبَطنُه وارِدٌ في الذينَ نَصَبوا أئِمَّةً بأيديهم، وعَظَّموهم وأحَبُّوهم، والتَزَموا طاعَتَهم، وجَعَلوهم شُرَكاءَ إمامِهم الذي عَيَّنَه اللهُ لهم)
.
وجَعلُهم هذا قاعِدةً يعني أنَّ أخبارَهم تَواطَأت لإثباتِ هذا الأمرِ، وهذا ما صَرَّحوا به فقالوا: (إنَّ الأخبارَ مُتَضافِرةٌ في تَأويلِ الشِّركِ باللهِ والشِّركِ بعِبادَتِه بالشِّركِ في الوِلايةِ والإمامةِ، أي: يُشرَكُ مَعَ الإمامِ مَن ليس مِن أهلِ الإمامةِ، وأن يُتَّخَذَ مَعَ وِلايةِ آلِ مُحَمَّدٍ رَضِيَ اللهُ عنهم «أي الأئِمَّةِ الاثني عَشرَ» وِلايةُ غَيرِهم)
.
وعِندَهم رِواياتٌ كثيرةٌ تُؤَصِّلُ لذلك، وتُثبتُ قاعِدتَه، كقَولِهم: (مَن أشرَك مَعَ إمامٍ إمامَتُه مِن عِندِ اللهِ مَن ليسَت إمامَتُه مِنَ اللهِ كان مُشرِكًا)
.
وفي هذا المَعنى عِدَّةُ رِواياتٍ في كِتابِ الكافي للكُلينيِّ
.
وقال ابنُ بابَويهِ: (... أن يعلمَ أهلُ كُلِّ زَمانٍ أنَّ اللهَ هو الذي لا يُخلِيهم في كُلِّ زَمانٍ عن إمامٍ مَعصومٍ، فمَن عَبَدَ رَبًّا لم يُقِمْ لهم الحُجَّةَ، فإنَّما عَبَدَ غَيرَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ)
.
يعني أنَّ من آمَنَ باللهِ سُبحانَه ربًّا، وأخلصَ له العِبادةَ، ولكِنِ اعتَقدَ أنَّ عَليًّا رَضِيَ اللهُ عنه ليس وصيًّا، ولم يُثبِتِ العِصمةَ للأئِمَّةِ الاثنَي عَشرَ، فقد عَبَدَ غَيرَ اللهِ! وقد أخَذَ الشِّيعةُ مِن أمثالِ هذه النُّصوصِ تَكفيرَ مَن عَداهم مِنَ المُسلمينَ!
قال الشَّيخُ المُفيدُ: (اتَّفقَتِ الإماميَّةُ على أنَّ مَن أنكرَ إمامةَ أحَدٍ مِنَ الأئِمَّةِ، وجَحَدَ ما أوجَبَه اللهُ تعالى مِن فرضِ الطَّاعةِ لهم، فهو كافِرٌ مُستَحِقٌّ للخُلودِ في النَّارِ)
.
وقال المَجلِسيُّ: (اعلَمْ أنَّ إطلاقَ لفظِ الشِّركِ والكُفرِ -يعني في نُصوصِهم- على مَن لم يعتَقِدْ إمامةَ أميرِ المُؤمِنينَ والأئِمَّةِ مِن ولدِه عليهم السَّلامُ، وفضَّل عليهم غَيرَهم: يدُلُّ أنَّهم كُفَّارٌ مُخَلَّدونَ في النَّارِ)
.
وكُلُّ ذلك دَعاوى لا سَنَدَ لها مِن كِتابِ اللهِ سُبحانَه، ولو كان شَيءٌ مِمَّا يقولونَ حَقًّا لكان له ذِكرٌ في كِتابِ اللهِ في آياتٍ كثيرةٍ صَريحةٍ مُبيِّنةٍ، لا لبسَ فيها ولا غُموضَ، تُبيِّنُ للأُمَّةِ هذا الأمرَ العَظيمَ الذي يزعُمونَه، ولو كان شَيءٌ مِن ذلك واقِعًا لبَيَّنه الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَيانًا واضِحًا شافيًا كافيًا، ولنَقلَتْه الأُمَّةُ بأجمَعِها، وأصبَحَ مِنَ الأُمورِ المَشهورةِ المَعروفةِ.
وآياتُ القُرآنِ صَريحةٌ واضِحةٌ في أنَّ أصلَ هذا الدِّينِ وأساسَه هو تَوحيدُ اللهِ سُبحانَه وإفرادُه جَلَّ شَأنُه بالعُبوديَّةِ.
وقد جاءَت رِوايةٌ عن بَعضِ أئِمَّتِهم تُناقِضُ تَأويلاتِهم؛ ففي تَفسير (البُرهان): عن حَبيبِ بن مُعلًّى الخثعميُّ قال: ذَكرتُ لأبي عَبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنه ما يقولُ أبو الخَطَّابِ في قَولِه عَزَّ وجَلَّ:
إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ أنَّه أميرُ المُؤمِنين
وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ فلانٌ وفلانٌ
. قال أبو عَبدِ اللهِ: مَن قال هذا فهو مُشرِكٌ باللهِ عَزَّ وجَلَّ -ثَلاثًا- أنا إلى اللهِ منهم بَريءٌ، ثَلاثًا، بل عنى اللهُ بذلك نَفسَه، قال: فالآيةُ الأُخرى التي في حم، قَولُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ:
ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ قُلتُ: زَعَمَ أنَّه يعني بذلك أميرَ المُؤمِنينَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. قال أبو عَبدِ اللهِ: مَن قال هذا فهو مُشرِكٌ باللهِ عَزَّ وجَلَّ، ثَلاثًا، أنا إلى اللهِ منهم بَريءٌ، ثَلاثًا، بل عنى اللهُ بذلك نَفسَهـ)
.