موسوعة الفرق

الفصلُ الثَّاني: مَصدَرُ مقالةِ الجَهْميَّةِ


تنوَّعَت المصادِرُ التي استَقَت منها الجَهْميَّةُ آراءَها الباطِلةَ، ومن ذلك:
1- مصادِرُ فلسفيَّةٌ: ومن هذه المصادِرِ استمدَّت الجَهْميَّةُ كثيرًا من أصولِها أو تأثَّرت بها، كفَلسَفةِ الصَّابئةِ، والبَراهمةِ، والسُّمَنيَّةِ، واليونانيَّةِ، والرُّومانيَّةِ.
2- مصادِرُ دينيَّةٌ: كاليَهودِ والنَّصارى، وبعضِ الدِّياناتِ الوَثَنيَّةِ.
قال ابنُ تيميَّةَ عن مَذهَبِ الجَهْميَّةِ: (هذا المَذهَبُ الذي يُسمِّيه السَّلَفُ قَولَ جَهْمٍ؛ لأنَّه أوَّلُ من أظهَره في الإسلامِ، وقد بيَّنتُ إسنادَه فيه -في غيرِ هذا الموضِعِ- أنَّه ‌متلَقًّى ‌من ‌الصَّابئةِ ‌الفلاسِفةِ، والمُشرِكينَ البراهمةِ، واليهودِ السَّحَرةِ) [88] ((مجموع الفتاوى)) (6/ 51)، وبيَّنه في مواضعَ من كتبه، مثل: ((الفتوى الحموية الكبرى)) (ص: 234)، ((بيان تلبيس الجهمية)) (1/ 437). .
وقال أيضًا عن أصلِ مقالةِ تعطيلِ الصِّفاتِ: (إنَّما هو مأخوذٌ من تلامذةِ اليهودِ والمُشرِكينَ وضُلَّالِ الصَّابئينَ، فإنَّ أوَّلَ من حُفِظ عنه أنَّه قال هذه المقالةَ في الإسلامِ -أعني أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى ليس على العَرشِ حقيقةً، وإنما استوى بمعنى استولى، ونحو ذلك-... أوَّل ما ظهَرت هذه المقالةُ من جَعْدِ بنِ دِرهَمٍ، وأخذَها عنه الجَهْمِ بنِ صَفوانَ وأظهَرها؛ فنُسِبَت مقالةُ الجَهْميَّةِ إليه، وقد قيل: إنَّ الجَعْدَ أخذ مقالتَه عن أبانَ بنِ سَمعانَ، وأخذَها أبانُ من طالوتَ ابنِ أختِ لبيدِ بنِ الأعصَمِ، وأخذَها طالوتُ من لَبيدِ بنِ الأعصَمِ اليَهوديِّ السَّاحِرِ الذي سَحَر النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [89] ((الفتوى الحموية الكبرى)) (ص: 234). .
وقال ابنُ تيميَّةَ أيضًا: (‌أصلُ ‌الجَهلِ ‌والضَّلالِ والزَّندَقةِ والنِّفاقِ والإلحادِ والكُفرِ والتَّعطيلِ في هذا البابِ: هو ما اشتَرَكت فيه الدَّهريَّةُ والجَهْميَّةُ من التَّكذيبِ والنَّفيِ والجُحودِ لصِفاتِ اللهِ تعالى بلا بُرهانٍ أصلًا، بل البراهينُ إذا أعطَوها حقَّها أوجَبَت ثُبوتَ الصِّفاتِ، وهم مع اشتراكِهم في هذا الأصلِ الفاسِدِ افتَرَقوا حينَئذٍ في المُناظرةِ والمُخاصمةِ، كُلُّ قومٍ معهم من الباطِلِ نَصيبٌ. وذلك أنَّ مبدأَ حُدوثِ هذا في الإسلامِ هو مُناظرةُ الجَهْميَّةِ للدَّهْريَّةِ، كما ذكَرَ الإمامُ أحمدُ رحمه اللهُ تعالى في مُناظرةِ جَهْمٍ للسُّمَنيَّةِ -وهم من الدَّهريَّةِ- حيثُ أنكروا الصَّانعَ، وإن كان غيرُهم من فلاسفةِ الهندِ كالبراهمةِ لا يُنكِرُه، بل يقولُ: العالَمُ مُحدَثٌ فَعَلَه فاعِلٌ مختارٌ، كما يحكي عنهم المُتكلِّمون. وكذلك مُناظَرةُ المُعتَزِلةِ وغيرِهم لغيرِ هؤلاء من فلاسفةِ الرُّومِ والفُرسِ وغَيرِهم من أنواعِ الدَّهْريَّةِ، وكذلك مناظرةُ بعضِهم بعضًا في تقريرِ الإسلامِ عليهم، وإحداثُهم في الحُجَجِ التي سمَّوها أصولَ الدِّينِ ما ظنُّوا أنَّ دينَ الإسلامِ ينبني عليها. وذلك هو أصلُ عِلمِ الكلامِ الذي اتَّفق السَّلَفُ والأئمَّةُ على ذَمِّه وذَمِّ أصحابِه وتجهيلِهم؛ فإنَّ كلامَ السَّلَفِ والأئمَّةِ في ذَمِّ الجَهْميَّةِ والمُتكلِّمينَ لا يُحصيه إلَّا اللهُ تعالى، وأصلُ ذلك أنَّهم طلَبوا أن يُقَرِّروا ما لا رَيبَ فيه عِندَ المُسلِمينَ، من أنَّ اللهَ تعالى خلق السَّمَواتِ والأرضَ، وأنَّ العالَمَ له صانِعٌ خالِقٌ خلَقَه، ويرُدُّوا على من يَزعُمُ أنَّ ذلك قديمٌ: إمَّا واجِبٌ بنفسِه، وإمَّا معلولٌ عِلَّةً واجبةً بنَفسِها؛ فإنَّ الدَّهْريَّةَ لهم قولانِ في ذلك، ولعَلَّ أكثَرَ المُتكلِّمينَ إذا ذكَروا قَولَ الدَّهْريَّةِ لا يذكُرونَ من الدَّهْريَّةِ إلَّا من يُنكِرُ الصَّانِعُ، فيقولُ: الدَّهْريَّةُ، وهم الذين يقولونَ بقِدَمِ العالَمِ وإنكارِ الصَّانعِ، وعندَهم كُلُّ مَن آمَن بالصَّانعِ فإنَّه يقولُ بحُدوثِ العالَمِ، وهذا كما قاله طوائِفُ من المُتكلِّمينَ، كالقاضي أبي بكرِ بنِ الباقِلَّانيِّ) [90] ((بيان تلبيس الجهمية)) (1/ 437). .
3- ما يظنُّونَه عَقليَّاتٍ: فقد كان من أهمِّ المُؤثِّراتِ التي نَحَت بالجَهْميَّةِ هذا المنْحى البِدعيَّ: اعتمادُهم على العَقلِ اعتمادًا كُلِّيًّا، وما ظنُّوه عقليَّاتٍ هو في الحقيقةِ أهواءٌ، ومُستحسَناتٌ رأوها، فاقدينَ لمعيارِ الوَحيِ الضَّابطِ لِما يُؤخَذُ أو يُرَدُّ من الأفكارِ والمُعتقَداتِ.
قال ابنُ تيميَّةَ: (أصلُ قَولِ الجَهْميَّةِ هو نفيُ الصِّفاتِ بما يزعُمونَه من دعوى العَقليَّاتِ التي عارَضوا بها النُّصوصَ) [91] ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/276). .
وسرى التَّقديمُ المُطلَقُ للعَقلِ في الفِرَقِ المتأثِّرةِ بالجَهْميَّةِ، كالمُعتَزِلةِ والأشاعرةِ، تحتَ مُسمَّى سلامةِ السَّمعِ من المعارِضِ العَقليِّ، وأصَّلوا أنَّ (العَقلَ أصلٌ، والشَّرعَ فَرعٌ)، وجعَلوها قانونًا كُليًّا، وهي لا تَعْدو كَونَها مغالَطةً وبِدعةً جَهْميَّةً [92] يُنظر: ((درء التعارض)) لابن تيمية (1/ 78)، ((العقل أصل والشرع تبع: قانون كلي أو مغالطة؟)) للعيسوي (ص: 2-5). .

انظر أيضا: