الموسوعة الفقهية

المَبحَثُ الأوَّلُ: تَنازُلُ الشَّفيعِ عن الشُّفْعةِ بدونِ عِوَضٍ قَبْلَ البَيْعِ


اخْتَلَفَ العُلَماءُ في إسْقاطِ الشُّفْعةِ بتَنازُلِ الشَّفيعِ عن الشُّفْعةِ بدونِ عِوَضٍ قَبْلَ البَيْعِ، على قَوْلَينِ:
القَوْلُ الأوَّلُ: لا تَسقُطُ الشُّفْعةُ بتَنازُلِ الشَّفيعِ عن الشُّفْعةِ قَبْلَ البَيْعِ، وذلك باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهيَّةِ الأرْبَعةِ: الحَنَفِيَّةِ ، والمالِكِيَّةِ ، والشَّافِعِيَّةِ ، والحَنابِلةِ ، وذلك لأنَّه إسْقاطُ حَقٍّ قَبْلَ وُجوبِه، فلم يَسقُطْ كما لو أَبرَأَه ممَّا سيُقرِضُه له .
القَوْلُ الثَّاني: تَسقُطُ الشُّفْعةُ بتَنازُلِ الشَّفيعِ عن الشُّفْعةِ قَبْلَ البَيْعِ، وهو رِوايةٌ عنْدَ الحَنابِلةِ ، وهو قَوْلُ جَماعةٍ مِن السَّلَفِ ، واخْتارَه ابنُ تَيْمِيَّةَ ، وابنُ القَيِّمِ ، وابنُ عُثَيْمينَ .
الأَدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِن السُّنَّةِ
عن جابِرٍ قالَ: ((قَضى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالشُّفْعةِ في كُلِّ شَرِكةٍ لم تُقسَمْ؛ رَبْعةٍ أو حائِطٍ، لا يَحِلُّ له أن يَبيعَ حتَّى يُؤذِنَ شَريكَه، فإن شاءَ أخَذَ، وإن شاءَ تَرَكَ، فإذا باعَ ولم يُؤذِنْه فهو أَحَقُّ بهـ)) .
أَوجُهُ الدَّلالةِ:
1- في قَوْلِه: ((فإذا باعَ ولم يُؤذِنْه فهو أَحَقُّ بهـ)) مَفْهومُ المُخالَفةِ أنَّه إذا باعَ بإذْنِه لا حَقَّ له فيه .
2- الحَديثُ فيه دَلالةٌ على أنَّ شُفْعتَه تَسقُطُ؛ لأنَّه أَسقَطَها بَعْدَ وُجودِ سَبَبِ المِلْكِ، وهو السَّوْمُ ورِضا البائِعِ بالثَّمَنِ .
ثانِيًا: لأنَّ الشُّفْعةَ تَثبُتُ لإدْخالِه الضَّرَرَ على شَريكِه، وتَرْكِه الإحْسانَ إليه في عَرْضِه عليه، وهذا المَعْنى مَعْدومٌ هاهنا، فإنَّه قد عَرَضَه عليه. وامْتِناعُه مِن أخْذِه دَليلٌ على عَدَمِ الضَّرَرِ في حَقِّه ببَيْعِه، وإن كانَ فيه ضَرَرٌ فهو أَدخَلَه على نَفْسِه، فلا يَسْتحِقُّ الشُّفْعةَ، كما لو أخَّرَ المُطالَبةَ بَعْدَ البَيْعِ .
ثالِثًا: كما لو أَذِنَ له في إتْلافِ مالِه وأَسقَطَ الضَّمانَ عنه قَبْلَ الإتْلافِ، فإنَّه لا يَضمَنُ اتِّفاقًا .

انظر أيضا:

  1. (1) ((المبسوط)) للسرخسي (14/90)، ((الفتاوى الهندية)) (5/182).
  2. (2) ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (3/487)، ((منح الجليل)) لعليش (7/221).
  3. (3) ((روضة الطالبين)) للنووي (5/113).
  4. (4) ((الإقناع)) للحجاوي (2/368)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (4/145).
  5. (5) ((كشاف القناع)) للبهوتي (4/145).
  6. (6) ((المبدع)) لبرهان الدِّين ابن مفلح (5/142).
  7. (7) قالَ ابنُ قُدامةَ: (وهذا قَوْلُ الحَكَمِ، والثَّوْريِّ، وأبي عُبَيْدٍ، وأبي خَيْثَمةَ، وطائِفةٍ مِن أهْلِ الحَديثِ). ((المغني)) (5/282).
  8. (8) قالَ المَرْداويُّ: («ويَحْتمِلُ أن تَسقُطَ»، وهو رِوايةٌ عن الإمامِ أحْمَدَ ذَكَرَها أبو بَكْرٍ في الشَّافي، واخْتارَه الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ رَحِمَه اللهُ، وصاحِبُ الفائِقِ، وأَطلَقَهما في المُحرَّرِ، والرِّعايتَينِ، والحاوي الصَّغيرِ، والفائِقِ، والقَواعِدِ). ((الإنصاف)) (6/199).
  9. (9) قالَ ابنُ القَيِّمِ: (ونَظيرُها سواءً إسْقاطُ الشُّفْعةِ قَبْلَ البَيْعِ، فمَن لم يَرَ سُقوطَها قالَ: هو تَقْديمٌ للحُكْمِ على سَبَبِه، وليس بصحيحٍ، بلْ هو إسْقاطٌ لحَقٍّ كانَ بعَرْضِ الثُّبوتِ، فلو أنَّ الشُّفْعةَ ثَبتَتْ ثُمَّ سَقَطَتْ قَبْلَ البَيْعِ لَزِمَ ما ذَكَرْتُم، ولكنَّ صاحِبَها رَضِيَ بإسْقاطِها، وألَّا يكونَ البَيْعُ سَبَبًا لأخْذِه بها، فالحَقُّ له وقدْ أَسقَطَه، وقد دَلَّ النَّصُّ على سُقوطِ الخِيارِ والشُّفْعةِ قَبْلَ البَيْعِ، وصارَ هذا كما لو أَذِنَ له في إتْلافِ مالِه وأَسقَطَ الضَّمانَ عنه قَبْلَ الإتْلافِ؛ فإنَّه لا يَضمَنُ اتِّفاقًا). ((بدائع الفوائد)) (1/4).
  10. (10) علَّقَ ابنُ عُثَيْمينَ على قَوْلِ صاحِبِ الكافي في قَوْلِه: (وإذا أَذِنَ الشَّريكُ في البَيْعِ لم تَسقُطْ شُفْعتُه؛ لأنَّه إسْقاطُ حَقٍّ قَبْلَ وُجوبِه، فلم يَصِحَّ، كما لو أَبرَأَه ممَّا يَجِبُ لهـ) فقالَ: (الفُقَهاءُ يَقولونَ: إنَّ له حَقًّا في الشُّفْعةِ؛ لأنَّه أَسقَطَ الحَقَّ قَبْلَ وُجوبِه فلا يَسقُطُ، لكنَّ الحَديثَ يَدُلُّ على أنَّه إذا أَذِنَ له في بَيْعِه فليس له أن يَأخُذَ بالشُّفْعةِ. مِثالُه: رَجُلانِ شَريكانِ في أرْضٍ، فجاءَ الشَّريكُ إلى شَريكِه وقالَ: يا فُلانُ، أنا أُريدُ أن أبَيْعَ الأرْضَ، وهي تُسَامُ بكَذا وكَذا، فهلْ لك فيها نَظَرٌ، فقالَ الشَّريكُ: لا نَظَرَ لي فيها. ثُمَّ تَمَّ البَيْعُ على ذلك، فالمَذهَبُ يَقولونَ: للشَّريكِ أن يَشْفَعَ؛ لأنَّه أَسقَطَ الشُّفْعةَ قَبْلَ وُجوبِها؛ إذ إنَّ الشُّفْعةَ لا تَجِبُ إلَّا إذا ثَبَتَ البَيْعُ، لكنَّ ظاهِرَ الحَديثِ أنَّ شُفْعتَه تَسقُطُ؛ لأنَّه أَسقَطَها بَعْدَ وُجودِ سَبَبِ المِلْكِ، وهو السَّوْمُ ورِضا البائِعِ بالثَّمَنِ، وما يَدُلُّ عليه الحَديثُ لا شكَّ أنَّه أَوْلى). ((التعليق على الكافي)) (6/534).
  11. (11) أخرجه البخاريُّ (2257) مختَصَرًا، ومُسلِمٌ (1608) واللَّفْظُ له.
  12. (12) ((المغني)) لابن قُدامةَ (5/282)، ((المبدع)) لبرهان الدِّين ابن مفلح (5/142).
  13. (13) ((التعليق على الكافي)) لابن عُثَيْمينَ (6/534).
  14. (14) ((المغني)) لابن قُدامةَ (5/282).
  15. (15) ((بدائع الفوائد)) لابن القَيِّمِ (1/4).