الموسوعة الفقهية

المَبْحَثُ الرَّابعُ: اشتِراطُ مَنفَعةٍ لأحَدِ البائِعَينِ في البَيعِ


يَصِحُّ اشتراطُ مَنفَعةٍ لأحَدِ البائِعَينِ في البَيْعِ، وهو مَذهَبُ المالِكيَّةِ ، والحَنابِلةِ ، ووَجْهٌ للشَّافِعيَّةِ ، وهو قَوْلُ طائفةٍ مِنَ السَّلَفِ ، واختيارُ البُخاريِّ ، وابنِ المُنذِرِ ، وابنِ تَيمِيَّةَ ، وابنِ القَيِّمِ ، والصَّنعانيِّ ، وابنِ عُثَيمين
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عن جابِرٍ رَضِيَ الله عنهُ: أنَّهُ كانَ يَسيرُ على جَمَلٍ لهُ قد أعيا، فمَرَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فضَربَه فدعا له، فسارَ بَسيرٍ ليسَ يَسيرُ مِثلَه، ثُمَّ قال: ((بِعْنِيه بوَقيَّةٍ، قُلتُ: لا، ثُمَّ قال: بِعْنِيه بوَقيَّةٍ، فبِعْتُه، فاستَثنَيتُ حُملانَه إلى أهلي، فلَمَّا قَدِمْنا أتَيتُه بالجَمَلِ ونَقَدَني ثَمَنَه، ثُمَّ انصَرَفْتُ، فأَرسَلَ على إِثْري، قال: ما كُنتُ لآخُذَ جَملَك، فخُذْ جَمَلَك ذلك، فهو مالُك )) قال شُعبةُ عن مُغِيرةَ عن عامِرٍ عن جابِرٍ: أفقَرَني رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ظَهرَه إلى المَدينةِ
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّ جابِرًا استَثنى حُملانَ الجَمَلِ له إلى أهلِه، وهو بَعضُ مَنفَعةِ المَبيعِ، فلَم يُنكِرْه، بَل أجازَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولَم يُبطِلِ البَيعَ
ثانيًا: لأنَّ أكثَرَ ما فيه تَأخيرُ تَسليمِه مُدَّةً مَعلومةً، فصَحَّ، كَما لو باعَه دارًا مُؤَجَّرةً
ثالِثًا: كمَن باعَ نَخلًا عليها ثَمَرةٌ غَيرُ مُؤَبَّرةٍ، واستَثنى البائِعُ الثَّمَرةَ لهُ، فإنَّهُ يَصِحُّ البَيعُ وتَبقى الثَّمَرةُ على النَّخلِ إلى أوانِ الجَذاذِ، وهَذا استِثناءٌ لمَنفَعةِ البَيعِ
رابعًا: أنَّ الأصلَ في العُقودِ والشُّروطِ: الجَوازُ والصِّحَّةُ، ولا يَحرُمُ مِنها ويَبطُلُ إلَّا ما دَلَّ الشَّرعُ على تَحريمِه وإبطالِه نَصًّا أو قياسًا عِندَ مَن يَقولُ به

انظر أيضا:

  1. (1) هُناكَ فُروقٌ بينَ الشُّروطِ في البَيعِ وشُروطِ البَيعِ مِن وُجوهٍ أربَعةٍ: الأوَّلُ: أنَّ شُروطَ البَيعِ مِن وَضْعِ الشَّارِعِ، والشُّروطَ في البَيعِ مِن وضعِ المُتَعاقِدَينِ الثَّاني: شُروطُ البَيعِ يَتَوَقَّفُ عليها صِحَّةُ البَيعِ، والشُّروطُ في البَيعِ يَتَوَقَّفُ عليها لُزومُ البَيعِ، فهوَ صَحيحٌ، لَكِن لَيسَ بِلازمٍ؛ لِأنَّ مَن لَه الشَّرطُ إذا لَم يُوفِ لَه بِه فله الخِيارُ الثَّالِثُ: أنَّ شُروطَ البَيعِ لا يُمكِنُ إسقاطُها، والشُّروطُ في البَيعِ يُمكِنُ إسقاطُها مِمَّن لَه الشَّرطُ الرَّابِعُ: أنَّ شُروطَ البَيعِ كُلَّها صَحيحةٌ مُعتَبَرةٌ؛ لِأنَّها مِن وَضْعِ الشَّرعِ، والشُّروطُ في البَيعِ مِنها ما هوَ صَحيحٌ مُعتَبَرٌ، ومِنها ما [هوَ] لَيسَ بِصَحيحٍ ولا مُعتَبَرٍ؛ لِأنَّه مِن وَضْعِ البَشَرِ، والبَشَرُ قَد يُخطِئُ وقَد يُصيبُ يُنظر: ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (8/223)
  2. (2) قال ابنُ عُثَيمين: (الشُّروطُ الصَّحيحةُ تَنقَسِمُ إلَى ثَلاثةِ أقسامٍ: الأوَّلُ: قِسمٌ ثابِتٌ، سَواءٌ شُرِطَ أم لَم يُشتَرَط؛ لِأنَّه مِن مُقتَضَى العَقْدِ، مِثلُ تَسليمِ البائِعِ المَبيعَ والمُشتَري الثَّمنَ، وكَونِ الثَّمَن حالًّا، وما أشبَه ذلك مِمَّا لا يَحتاجُ إلَى شَرطٍ، فهَذا إذا شُرِطَ فهوَ تَوكيدٌ، ولَو جَمعَ ألفَ شَرطٍ مِن هَذا النَّوعِ فإنَّه يَصِحُّ الثَّاني: ما يَتَعَلَّقُ بِمَصلَحةِ العَقْدِ ولَيسَ نَفعًا مُستَقِلًّا، أي: لَيسَ نَفعًا يَنتَفِعُ بِه البائِعُ أوِ المُشتَري، ولَكِنَّه مِن مَصلَحةِ العَقْدِ، مِثلُ: الرَّهنِ، وكَونِ العَبدِ كاتِبًا، والأمَةِ بِكْرًا، والدَّابَّةِ هملاجةً وما أشبَهَ ذلك الثَّالِثُ: شَرطُ نَفعٍ إمَّا لِلبائِعِ وإمَّا لِلمُشتَري، والَّذي لِلبائِعِ، مِثلُ أن يَشتَرِطَ إذا باعَ دارَه سُكْناها شَهرًا، والَّذي لِلمُشتَري، مِثلُ أن يَشتَرِطَ على البائِعِ أن يَحمِلَ الحَطبَ وما أشبَهَ ذلك) ((الشرح الممتع)) (8/236)
  3. (3) كأن يَبيعَ شَخصٌ سَيَّارَتَه ويَشتَرِطَ رُكوبَها إلَى مَكانٍ مُعَيَّنٍ، أو يَبيعَ شَخصٌ بيتَه ويَشتَرِطَ سُكناه مُدَّةً مَعلومةً، أو يَكونَ الِاشتِراطُ مِن قِبَلِ المُشتَري كأن يَشتَريَ حَطَبًا ويَشتَرِطَ على البائِعِ حَملَه إلَى بيتِه، أو يَشتَرِطَ تَكسيرَه
  4. (4) كأن يَبيعَ شَخصٌ سَيَّارَتَه ويَشتَرِطَ رُكوبَها إلَى مَكانٍ مُعَيَّنٍ، أو يَبيعَ شَخصٌ بيتَه ويَشتَرِطَ سُكناه مُدَّةً مَعلومةً، أو يَكونَ الِاشتِراطُ مِن قِبَلِ المُشتَري كأن يَشتَريَ حَطَبًا ويَشتَرِطَ على البائِعِ حَملَه إلَى بيتِه، أو يَشتَرِطَ تَكسيرَه
  5. (5) اشتَرَطَ المالِكيَّةُ مُدَّةً مُعَيَّنةً لِلمَنفَعةِ، بِحَيثُ لا تَتَجاوَزُ المُدَّةُ بِالنِّسبةِ لِلدَّارِ سَنةً، والأرضِ عَشْرَ سَنَواتٍ، والحَيَوانِ ثَلاثةَ أيَّامٍ. ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (4/13)، ((الكافي)) لابن عبد البر (2/682)، ((منح الجليل)) لعُلَيش (7/466).
  6. (6) قَيَّدَ الحَنابِلةُ جَوازَ الشَّرطِ الَّذي فيه نَفعٌ بِأن يَكونَ النَّفعُ مُباحًا مَعلومًا. ((الإنصاف)) للمرداوي (4/ 248)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/79).
  7. (7) ((المجموع)) للنووي (9/369).
  8. (8) قال ابنُ المُنذِرِ: (اختَلَفوا في الرَّجُلِ يَبيعُ الدَّابَّةَ ويَشتَرِطُ ظَهرَها إلَى مَكانٍ مَعلومٍ، أو وقتًا مَعلومًا. فقالت طائِفةٌ: البَيعُ جائِزٌ، والِاستِثناءُ ثابِتٌ. ومِمَّن أجاز ذلك: الأوزاعيُّ، وأحمَدُ، وإسحاقُ، وأبو ثَورٍ، وابنُ نَصرٍ، وأهلُ الحَديثِ، واحتَجَّوا بِحَديثِ جابِرٍ) ((الأوسط)) (10/318).    
  9. (9) قال البُخاريُّ: (بابُ إذا اشتَرَطَ البائِعُ ظَهرَ الدَّابَّةِ إلَى مَكانٍ مُسَمًّى جازَ). ((صحيح البخاري)) (3/189).
  10. (10) قال ابنُ المُنذِرِ: (بِالسُّنَّة الثَّابِتةِ أقولُ، فلا يَحِلُّ لِمُسلِمٍ تَصِحُّ عِندَه سُنَّةٌ ثابِتةٌ عَن رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيَتَخَلَّفَ عَنِ القَولِ بِها. وكَذلك الدَّارُ تُباعُ ويُستَثنَى سَكَنُها وقتًا مَعلومًا. والعَبدُ يُباعُ ويُستَثنَى مِنه خِدمةٌ مَعلومةٌ، وكُلُّ ما ذَكَرناه فهوَ استِثناءُ مَنفَعةٍ مَعلومةٍ مِن غَيرِ مَعروفٍ تَنعَقِدُ عليها الإجاراتُ. وكُلُّ ما ذَكَرناه داخِلٌ في مَعنى خَبَرِ جابِرِ بْنِ عَبدِ اللهِ) ((الأوسط)) (10/319)، وينظر: ((المجموع)) للنووي (9/369).
  11. (11) قال ابنُ تيميَّةَ: (يَجوزُ لِلبائِعِ أن يَستَثنيَ بعضَ مَنفَعةِ المَبيعِ، كخِدمةِ العَبدِ وسُكنَى الدَّارِ ونَحوِ ذلك إذا كانَت تِلكَ المَنفَعةُ مِمَّا يَجوزُ استِبقاؤَها في مِلْكِ الغَيرِ، اتِّباعًا لِحَديثِ جابِرٍ لَمَّا باعَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جَمَلَه واستَثنَى ظَهْرَه إلَى المَدينةِ) ((مجموع الفتاوى)) (29/134)، وينظر: ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيميَّةَ (4/80).
  12. (12) قال ابنُ القَيِّمِ: (يَجوزُ لِكُلِّ بائِعٍ أن يَستَثنيَ مِن مَنفَعةِ المَبيعِ ما لَه فيه غَرَضٌ صَحيحٌ، كما إذا باعَ عقَارًا واستَثثَى سُكناه مُدَّةً، أو دابَّةً واستَثنَى ظَهْرَها، ولا يَختَصُّ ذلك بِالبَيعِ، بل لَو وهَبَه [شَيئًا] واستَثنَى نَفعَه مُدَّةً، أو أعتَقَ عَبدَه واستَثنَى خِدمَتَه مُدَّةً، أو وقفَ عَينًا واستَثنَى غَلَّتَها لِنَفسِه مُدَّةَ حَياتِهـ) ((إعلام الموقعين)) (3/ 209).
  13. (13) قال الصَّنعانيُّ: (أنَّه يَصِحُّ البَيعُ لِلدَّابَّةِ واستِثناءُ رُكوبِها... اختَلَفَ العُلَماءُ في ذلك على أقوالٍ: الأوَّلُ: لِأحمَدَ أنَّه يَصِحُّ ذلك... وأظهَرُ الأقوالِ الأوَّلُ، وهوَ صِحَّةُ مِثلِ هَذا الشَّرطِ، وكُلُّ شَرطٍ يَصِحُّ إفرادُه بِالعَقْدِ، كإيصالِ المَبيعِ إلَى المَنزِلِ وخياطةِ الثَّوبِ وسُكنَى الدَّارِ، وقَد رَوَى عُثمانُ أنَّه باعَ دارًا واستَثنَى سُكناها شَهرًا) ((سبل السلام)) (3/8).
  14. (14) قال ابنُ عُثَيمين: («ونَحوُ أن يَشتَرِطَ البائِعُ سُكنَى الدَّارِ شَهرًا» أي: إذا اشتَرَطَ البائِعُ سُكنَى الدَّارِ شَهرًا، فإنَّ هَذا شَرطٌ صَحيحٌ. وقَولُه: «الدَّار» أل فيها لِلعَهدِ الذِّهنيِّ، أيِ: الدَّارِ المَبيعةِ شَهرًا. مِثالُه: أن يَقولَ: بِعْتُكَ داري هذه بِمِائةِ ألفِ دِرْهَمٍ، على أن أسكُنَها لِمُدَّةِ شَهرٍ، فيَصِحُّ البَيعُ، ويَصِحُّ الشَّرطُ، والدَّليلُ على ذلك عامٌّ وخاصٌّ) ((الشرح الممتع)) (8/231).
  15. (15) أخرجه البخاري (2718) واللَّفظُ له، ومسلم (715).
  16. (16) ينظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّةَ (29/ 133)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (3/209).
  17. (17) ((كشاف القناع)) للبهوتي (3/190).
  18. (18) ((المجموع)) للنووي (9/378)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّةَ (20/545).
  19. (19) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّةَ (29/ 132).
  20. (20) مِثلُ اشتِراطِ تَسليمِ البائِعِ المَبيعَ والمُشتَري الثَّمنَ، أوِ اشتِراطِ خيارِ المَجْلِسِ أوِ الرَّدِّ بِالعَيبِ، وما أشبَه ذلك مِمَّا لا يَحتاجُ إلَى شَرطٍ
  21. (21) مِثلُ أن يَبيعَه بِشَرطِ أن يَبيعَه عَينًا أخرَى؛ كأن يَقولَ البائِعُ: أبيعُكَ سَيَّارتي بِشَرطِ أن تَبيعَ لَي سَيَّارَتَك، أوِ الجَمعِ بينَ البَيعِ والإجارةِ، كأن يَقولَ البائِعُ: أبيعُ عليكَ هَذا البَيتَ بِشَرطِ أن أسكُنَ فيه -أو أن تُسكِنَني بيتَك- لِمُدَّةِ شَهرٍ أو مُدَّةِ سَنةٍ