المَطلَبُ الأوَّلُ: تَعريفُ التَّسعيرِ وحُكمُه
الفَرعُ الأوَّلُ: تَعريفُ التَّسعيرِ لُغةً واصطِلاحًاالتَّسعيرُ لُغةً: مِنَ السِّعرِ، وجَمعُه: أسعارٌ، مِثلُ حِمْلٍ وأحمالٍ. وقد أسعَروا وسَعَّروا، بمَعنًى واحِدٍ: اتَّفَقوا على سِعرٍ. والتَّسعيرُ: تَقديرُ السِّعرِ، يُقالُ: سَعَّرْتُ الشَّيءَ تَسعيرًا: أي جَعَلْتُ لهُ سِعْرًا مَعلومًا يَنتَهي إليه
التَّسعيرُ اصطِلاحًا: هو تَقديرُ السُّلطانِ أو نائِبِه للنَّاسِ سِعرًا، وإجبارُهم على التَّبايُعِ بما قَدَّرَه
الفَرْعُ الثَّاني: حُكْمُ التَّسعيرِالمَسألةُ الأُولى: الأصلُ في التَّسعيرِالأصلُ في التَّسعيرِ التحريمُ، وذلك باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهيَّةِ الأربعةِ
: الحَنَفيَّةِ
، والمالِكيَّةِ
، والشَّافِعيَّةِ
، والحَنابِلةِ
الأدِلَّةُ: أوَّلًا: مِنَ الكِتابِقَولُه تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء: 29] وَجْهُ الدَّلالةِ:في قَولِه تعالى:
إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء: 29] أنَّ اللهَ تعالى لم يُبِحْ أخْذَ مالِ الغَيرِ إلَّا عن تراضٍ
، وإلزامُ صاحِبِ السِّلْعةِ أن يَبيعَ بما لا يَرضى به مُنافٍ للآيةِ
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِعن
أنسٍ قال: غَلا السِّعرُ على عَهدِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقالوا: يا رَسولَ اللهِ، سَعِّرْ لنا، فقال
((إنَّ اللهُ هو المُسَعِّرُ، القابِضُ الباسِطُ الرَّزَّاقُ، وإنِّي لأُرجو أنَّ ألقى رَبِّي وليس أحَدٌ مِنكم يَطلُبُني بمَظْلَمةٍ في دَمٍ ولا مالٍ ))
وَجْهُ الدَّلالةِ:المُرادُ بالمَظلَمةِ بالمالِ هُنا التَّسعيرُ؛ لأنَّه مَأخوذٌ مِنَ المَظلومِ، فقَولُه:
((إنِّي لأرجو...)) إلَخ، إشارةٌ إلى أنَّ المانِعَ لهُ مِنَ التَّسعيرِ مَخافةُ أن يَظلِمَهم في أموالِهم؛ فإنَّ التَّسعيرَ تَصَرُّفٌ فيها بغَيرِ إذْنِ أهلِها؛ فيَكونُ ظُلمًا
ثالثًا: لأن الثَّمَنَ حَقُّ العاقِدِ، فإليه تقديرُه
رابعًا: لأنَّ التَّسعيرَ سَبَبُ الغَلاءِ؛ لأنَّ الجالِبِينَ إذا بَلَغَهم ذلك لم يَقدَموا بسِلَعِهم بَلَدًا يُكرَهُونَ على بَيعِها فيه بغَيرِ ما يُريدونَ، ومَن عِندَه البِضاعةُ يَمتَنِعُ مِن بَيعِها ويَكتُمُها، ويَطلُبُها أهلُ الحاجةِ إليها فلا يَجِدونَها إلَّا قَليلًا، فيَرفَعونَ في ثَمَنِها ليَصِلوا إليها، فتَغلُو الأسعارُ، ويَحصُلُ الإضرارُ بالجانِبَينِ؛ جانِبِ المُلَّاكِ في مَنعِهم مِن بَيعِ أملاكِهم، وجانِبِ المُشتَري في مَنعِه مِنَ الوُصولِ إلى غَرَضِه، فيَكونُ حَرامًا
المَسألةُ الثَّانيةُ: حُكْمُ التسعيرِ إذا تعلَّقَ به دَفْعُ ضَرَرٍ عامٍّيَجوزُ التَّسعيرُ إذا تعَلَّقَ به دَفْعُ ضَرَرٍ عامٍّ
، وهو مَذهَبُ الحَنَفيَّةِ
، وروايةٌ عن
مالِكٍ اختارها بَعْضُ المالِكيَّةِ
، وقَولٌ عِنْدَ الشَّافِعيَّةِ
، واختاره
ابنُ تَيمِيَّةَ
، و
ابنُ القَيِّمِ
الأدِلَّةُ:أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ1- عن
عَبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عنهما: أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((مَن أعتَقَ شِرْكًا لهُ في عَبدٍ، فكانَ لهُ مالٌ يَبلُغُ ثَمنَ العَبْدِ، قُوِّمَ العَبْدُ عليه قِيمةَ عَدْلٍ، فأعطى شُركاءَهُ حِصَصَهم، وعَتَقَ عليه العَبدُ، وإلَّا فقد عَتَقَ مِنه ما عَتَقَ
))
وَجْهُ الدَّلالةِ:إذا كانَ الشَّارِعُ يُوجِبُ إخراجَ الشَّيءِ مِن مِلْكِ مالِكِه بعِوَضِ المِثلِ لحاجةِ الشَّريكِ إلى إعتاقِ ذلك، وليس للمالِكِ المُطالَبةُ بالزِّيادةِ على نِصفِ القِيمةِ، فكَيفَ بمَن كانَت حاجَتُه أعظَمَ مِنَ الحاجةِ إلى إعتاقِ ذلك النَّصيبِ؟ مِثلُ حاجةِ المُضطَرِّ إلى الطَّعامِ واللِّباسِ وغَيرِ ذلك، وهَذا الَّذي أمرَ به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن تَقويمِ الجَميعِ بقيمةِ المِثلِ هو حَقيقةُ التَّسعيرِ
2- عن
جابِرٍ رضيَ الله عنه، قال:
((قَضَى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بِالشُّفْعةِ فِي كُلِّ شِرْكةٍ لم تُقسَمْ؛ رَبْعةٍ أو حائِطٍ، لا يَحِلُّ له أن يَبيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكَه، فإن شَاءَ أخَذَ، وإن شاء ترَك، فإذا باعَ ولم يُؤْذِنْه فهو أحَقُّ به ))
وَجْهُ الدَّلالةِ:أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أثبَتَ للشَّريكِ حَقَّ الشُّفعةِ، وألزَمَ البائِعَ أن يُعطيَه بنَفسِ الثَّمَنِ للتَّخَلُّصِ مِن ضَرَرِ المُشارَكةِ، فهو تَسعيرٌ في هَذِه الصُّورةِ، ويَلحَقُ بها ما هو أهَمُّ مِنها وأخطَرُ
ثانيًا: لأنَّ التَّسعيرَ فيه إلزامٌ بالعَدْلِ، ومَنعٌ مِنَ الظُّلمِ، وكَما أنَّه لا يَجوزُ الإكراهُ على البَيعِ بغَيرِ حَقٍّ، فيَجوزُ أو يَجِبُ الإكراهُ عليه بحَقٍّ، مِثلُ بَيعِ المالِ لقَضاءِ الدَّينِ الواجِبِ