الموسوعة الفقهية

المَطلَبُ الأوَّلُ: تَعريفُ التَّسعيرِ وحُكمُه


الفَرعُ الأوَّلُ: تَعريفُ التَّسعيرِ لُغةً واصطِلاحًا
التَّسعيرُ لُغةً: مِنَ السِّعرِ، وجَمعُه: أسعارٌ، مِثلُ حِمْلٍ وأحمالٍ. وقد أسعَروا وسَعَّروا، بمَعنًى واحِدٍ: اتَّفَقوا على سِعرٍ. والتَّسعيرُ: تَقديرُ السِّعرِ، يُقالُ: سَعَّرْتُ الشَّيءَ تَسعيرًا: أي جَعَلْتُ لهُ سِعْرًا مَعلومًا يَنتَهي إليه ((الصحاح)) للجوهري (2/685)، ((لسان العرب)) لابن منظور (4365).
التَّسعيرُ اصطِلاحًا: هو تَقديرُ السُّلطانِ أو نائِبِه للنَّاسِ سِعرًا، وإجبارُهم على التَّبايُعِ بما قَدَّرَه ((أسنى المطالب)) لزكريا الأنصاري (2/38)، ((مطالب أولي النهى)) للرحيباني (3/62).
الفَرْعُ الثَّاني: حُكْمُ التَّسعيرِ
المَسألةُ الأُولى: الأصلُ في التَّسعيرِ
الأصلُ في التَّسعيرِ التحريمُ، وذلك باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهيَّةِ الأربعةِ قال ابنُ هُبَيرةَ: (اتَّفَقوا على كراهيةِ التسعيرِ للنَّاسِ، وأنَّه لا يجوزُ) ((اختلاف الأئمة العُلَماء)) (1/413). : الحَنَفيَّةِ ((شرح مختصر الطحاوي)) للجصاص (3/140)، ((الهداية)) للمرغيناني (4/377)، ((البناية)) للعيني (12/217)، ((الدر المختار وحاشية ابن عابدين)) (6/399). ، والمالِكيَّةِ ((الكافي)) لابن عبد البر (2/730)، ((التاج والإكليل)) للموَّاق (4/380)، وينظر: ((القوانين الفقهية)) لابن جُزَيٍّ (ص: 169)، ((التفريع في فقه الإمام مالك)) لابن الجلاب (2/111)، ((الجامع لمسائل المدونة)) للصقلي (13/1052). ، والشَّافِعيَّةِ ((روضة الطالبين)) للنَّوَوي (3/413)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (2/38). ، والحَنابِلةِ ((الإنصاف)) للمرداوي (4/244)، ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (2/26)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (3/187).
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِنَ الكِتابِ
قَولُه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء: 29]
وَجْهُ الدَّلالةِ:
في قَولِه تعالى: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء: 29] أنَّ اللهَ تعالى لم يُبِحْ أخْذَ مالِ الغَيرِ إلَّا عن تراضٍ ((شرح مختصر الطحاوي)) للجصاص (3/ 140). ، وإلزامُ صاحِبِ السِّلْعةِ أن يَبيعَ بما لا يَرضى به مُنافٍ للآيةِ ((نيل الأوطار)) للشوكاني (5/ 260).
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
عن أنسٍ قال: غَلا السِّعرُ على عَهدِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقالوا: يا رَسولَ اللهِ، سَعِّرْ لنا، فقال ((إنَّ اللهُ هو المُسَعِّرُ، القابِضُ الباسِطُ الرَّزَّاقُ، وإنِّي لأُرجو أنَّ ألقى رَبِّي وليس أحَدٌ مِنكم يَطلُبُني بمَظْلَمةٍ في دَمٍ ولا مالٍ )) أخرجه أبو داود (3451) واللَّفظُ له، والترمذي (1314)، وابن ماجه (2200)، وأحمد (14057). قال الترمذي: حسنٌ صحيحٌ. وأخرجه ابن حبان في ((صحيحه)) (4935)، وصَحَّحه ابنُ عبد البر في ((الاستذكار)) (5/423)، وابن العربي في ((القبس)) (2/837)، وابن دقيق في ((الاقتراح)) (113)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (6/507)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3451)، والوادعي في ((الصحيح المسند)) (110) وقال: على شَرطِ مُسلِمٍ.
وَجْهُ الدَّلالةِ:
المُرادُ بالمَظلَمةِ بالمالِ هُنا التَّسعيرُ؛ لأنَّه مَأخوذٌ مِنَ المَظلومِ، فقَولُه: ((إنِّي لأرجو...)) إلَخ، إشارةٌ إلى أنَّ المانِعَ لهُ مِنَ التَّسعيرِ مَخافةُ أن يَظلِمَهم في أموالِهم؛ فإنَّ التَّسعيرَ تَصَرُّفٌ فيها بغَيرِ إذْنِ أهلِها؛ فيَكونُ ظُلمًا ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (5/ 1951) ((تحفة الأحوذي)) للمباركفورى (4/ 452).
ثالثًا: لأن الثَّمَنَ حَقُّ العاقِدِ، فإليه تقديرُه ((الهداية)) للمرغيناني (4/377).
رابعًا: لأنَّ التَّسعيرَ سَبَبُ الغَلاءِ؛ لأنَّ الجالِبِينَ إذا بَلَغَهم ذلك لم يَقدَموا بسِلَعِهم بَلَدًا يُكرَهُونَ على بَيعِها فيه بغَيرِ ما يُريدونَ، ومَن عِندَه البِضاعةُ يَمتَنِعُ مِن بَيعِها ويَكتُمُها، ويَطلُبُها أهلُ الحاجةِ إليها فلا يَجِدونَها إلَّا قَليلًا، فيَرفَعونَ في ثَمَنِها ليَصِلوا إليها، فتَغلُو الأسعارُ، ويَحصُلُ الإضرارُ بالجانِبَينِ؛ جانِبِ المُلَّاكِ في مَنعِهم مِن بَيعِ أملاكِهم، وجانِبِ المُشتَري في مَنعِه مِنَ الوُصولِ إلى غَرَضِه، فيَكونُ حَرامًا ((المغني)) لابن قدامة (4/164).
المَسألةُ الثَّانيةُ: حُكْمُ التسعيرِ إذا تعلَّقَ به دَفْعُ ضَرَرٍ عامٍّ
يَجوزُ التَّسعيرُ إذا تعَلَّقَ به دَفْعُ ضَرَرٍ عامٍّ كأن يَتَعَدَّى أربابُ الطَّعامِ عَنِ القيمةِ تَعَدِّيًا فاحِشًا، أو أن يَحتاجَ إلَى بَيعِه وشِرائِه عُمومُ النَّاسِ، أو أن يَحتَكِرَ التجارُ الطَّعامَ بقَصدِ ارتِفاعِ سِعرِه، أو كانَ البَيعُ مَحصورًا لِأُناسٍ مُعَيَّنِينَ بحَيثُ لا يُباعُ إلَّا لَهم ولا يُشتَرَى إلَّا مِنهم، أو أن يَتَواطَأ البائِعونَ ضِدَّ المُشتَرِينَ أوِ العَكسُ، فيَجوزُ التَّسعيرُ في هذه الأحوالِ بشَرطِ أن يَكونَ المُسعِّرُ عادِلًا. ويَكونُ التَّسعيرُ في كُلِّ شَيءٍ قوتًا كانَ أو غَيرَ قوتٍ؛ وذلك لِأنَّ التَّسعيرَ إنَّما جاز لِدَفعِ الإضرارِ بالعامَّةِ، وهَذا لا يَختَصُّ بالقُوتِ.. يُنظر: ((الهداية)) للمرغيناني (4/377، 378)، ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (6/28)، ((حاشية ابن عابدين)) (6/400، 401). ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّةَ (28/75-80)، ((الطرق الحكمية)) لابن القيم (ص 207). ، وهو مَذهَبُ الحَنَفيَّةِ ((العناية)) للبابرتي (10/59)، ((البناية)) للعيني (12/217)، ((الدر المختار وحاشية ابن عابدين)) (6/ 400). ، وروايةٌ عن مالِكٍ اختارها بَعْضُ المالِكيَّةِ ((الكافي في فقه أهل المدينة)) لابن عبد البر ((2/730)، ((المنتقى)) للباجي (5/18)، ((روضة المستبين)) لابن بزيزة (2/996). ، وقَولٌ عِنْدَ الشَّافِعيَّةِ ((روضة الطالبين)) للنَّوَوي (3/ 413). ، واختاره ابنُ تَيمِيَّةَ قال ابنُ تيميَّةَ: (فإذا كانَ النَّاسُ يَبيعونَ سِلعَتَهم على الوَجه المَعروفِ مِن غَيرِ ظُلمٍ مِنهم، وقَدِ ارتَفَعَ السِّعرُ: إمَّا لِقِلَّةِ الشَّيءِ، وإمَّا لِكَثرةِ الخَلقِ؛ فهَذا إلَى اللهِ، فإلزامُ الخَلقِ أن يَبيعوا بقيمةِ عَينِها إكراهٌ بغَيرِ حَقٍّ، وأمَّا الثَّاني: فمِثلُ أن يَمتَنِعَ أربابُ السِّلعِ مِن بَيعِها مَعَ ضَرورةِ النَّاسِ إلَيها إلَّا بزيادةٍ على القيمةِ المَعروفةِ، فهُنا يَجِبُ عليهم بيعُها بقيمةِ الْمِثْلِ، ولا مَعنى لِلتَّسعيرِ إلَّا إلزامُهم بقيمةِ المِثْلِ) ((مجموع الفتاوى)) (28/76-77). ، وابنُ القَيِّمِ قال ابنُ القَيِّمِ: (أمَّا التَّسعيرُ فمِنه ما هوَ ظُلمٌ مُحرَّمٌ، ومِنه ما هوَ عَدْلٌ جائِزٌ؛ فإذا تَضَمَّنَ ظُلمَ النَّاسِ وإكراهَهم بغَيرِ حَقٍّ على البَيعِ بثَمَنٍ لا يَرضونَه، أو مَنعَهم مِمَّا أباحَه اللهُ لَهم، فهوَ حَرامٌ، وإذا تَضَمَّنَ العَدْلَ بَينَ النَّاسِ، مِثلُ إكراهِهم على ما يَجِبُ عليهم مِنَ المُعاوَضةِ بثَمَنِ المِثلِ، ومَنعِهم مِمَّا يَحرُمُ عليهم مِن أخذِ الزِّيادةِ على عِوَضِ المِثلِ، فهوَ جائِزٌ، بَل واجِبٌ) ((الطرق الحكمية)) (2/638). وقال: (هَذا الَّذي أمر به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن تَقويمِ الجَميعِ قيمةَ المِثلِ هوَ حَقيقةُ التَّسعيرِ، وكَذلك سَلَّطَ الشَّريكَ على انتِزاعِ الشِّقْصِ المَشفوعِ مِن يَدِ المُشتَري بثَمَنِه الَّذي ابتاعَه به لا بزيادةٍ عليه؛ لِأجلِ مَصلَحةِ التَّكميلِ لِواحِدٍ، فكَيفَ بما هوَ أعظَمُ مِن ذلك؟ فإذا جوَّزَ لَه انتِزاعَه مِنه بالثَّمَنِ الَّذي وقَعَ عليه العَقدُ، لا بما شاءَ المُشتَري مِنَ الثَّمنِ، لِأجلِ هذه المَصلَحةِ الجُزئيَّةِ، فكَيفَ إذا اضطرَّ إلَى ما عِندَه مِن طَعامٍ وشَرابٍ ولِباسٍ وآلةِ حَربٍ؟ وكَذلك إذا اضطُرَّ الحاجُّ إلَى ما عِندَ النَّاسِ مِن آلاتِ السَّفَرِ وغَيرِها، فعلى وليِّ الأمرِ أن يُجبِرَهم على ذلك بثَمَنِ المِثلِ، لا بما يُريدونَه مِنَ الثَّمنِ، وحَديثُ العِتْقِ أصلٌ في ذلك كُلِّه). ((الطرق الحكمية)) (2/672).
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عن عَبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عنهما: أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَن أعتَقَ شِرْكًا لهُ في عَبدٍ، فكانَ لهُ مالٌ يَبلُغُ ثَمنَ العَبْدِ، قُوِّمَ العَبْدُ عليه قِيمةَ عَدْلٍ، فأعطى شُركاءَهُ حِصَصَهم، وعَتَقَ عليه العَبدُ، وإلَّا فقد عَتَقَ مِنه ما عَتَقَ بمَعنَى أنَّ مَن أعتَقَ نَصيبًا لَه في عَبدٍ مُشتَركٍ بَينَه وبَينَ غَيرِه، وإن قَلَّ ذلك النَّصيبُ، فكانَ لِذلك المُعتِقِ "مالٌ يَبلُغُ ثَمَنَ العَبْدِ" المُشتَرَكِ، أي: ثَمَنَ بَقيَّةِ العَبَدِ الَّتي هيَ حِصصُ شُركائِه، يَعني قيمةَ بَقيَّتِه؛ "قُوِّمَ العَبدُ" كُلُّه كامِلًا "قيمةَ العَدْلِ" بألَّا يُزادَ مِن قيمَتِه ولا يُنقَصَ "فأعطى" بالبِناءِ لِلفاعِلِ، أي: فأعطَى ذلك المُعتِقُ شُركاءَه في ذلك العَبْدِ قيمةَ حِصَصِهم وأنصِبائِهم مِنَ العَبدِ، وعَتَقَ العَبْدُ. فإنْ لَم يَكُن مُوسِرًا بقيمةِ أنصِباءِ شُركائِه فقَد عَتَقَ مِن ذلك العَبْدِ المُشتَرَكِ ما عَتَقَ فقَط، أي: عَتَقَ منه نَصيبُه الَّذي أعتَقَه دونَ أنصِبةِ شُرَكائِه، فيَكونُ العَبْدُ مُبعَّضًا، أي: يُعتَقُ بَعضُه ويَبقى بَعضُه الآخَرُ رَقيقًا. ينظر: ((إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري)) للقسطلاني (4/ 303) ((الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج)) لمحمد الأمين الهرري (16/ 366). )) أخرجه البخاري (2522).
وَجْهُ الدَّلالةِ:
إذا كانَ الشَّارِعُ يُوجِبُ إخراجَ الشَّيءِ مِن مِلْكِ مالِكِه بعِوَضِ المِثلِ لحاجةِ الشَّريكِ إلى إعتاقِ ذلك، وليس للمالِكِ المُطالَبةُ بالزِّيادةِ على نِصفِ القِيمةِ، فكَيفَ بمَن كانَت حاجَتُه أعظَمَ مِنَ الحاجةِ إلى إعتاقِ ذلك النَّصيبِ؟ مِثلُ حاجةِ المُضطَرِّ إلى الطَّعامِ واللِّباسِ وغَيرِ ذلك، وهَذا الَّذي أمرَ به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن تَقويمِ الجَميعِ بقيمةِ المِثلِ هو حَقيقةُ التَّسعيرِ ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّةَ (28/97)، ((الطرق الحكمية)) لابن القيم (2/671).
2- عن جابِرٍ قَل: ((قَضَى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بِالشُّفْعةِ فِي كُلِّ شِرْكةٍ لم تُقسَمْ؛ رَبْعةٍ أو حائِطٍ، لا يَحِلُّ له أن يَبيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكَه، فإن شَاءَ أخَذَ، وإن شاء ترَك، فإذا باعَ ولم يُؤْذِنْه فهو أحَقُّ به )) أخرجه مسلم (1608).
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أثبَتَ للشَّريكِ حَقَّ الشُّفعةِ، وألزَمَ البائِعَ أن يُعطيَه بنَفسِ الثَّمَنِ للتَّخَلُّصِ مِن ضَرَرِ المُشارَكةِ، فهو تَسعيرٌ في هَذِه الصُّورةِ، ويَلحَقُ بها ما هو أهَمُّ مِنها وأخطَرُ ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّةَ (28/97).
ثانيًا: لأنَّ التَّسعيرَ فيه إلزامٌ بالعَدْلِ، ومَنعٌ مِنَ الظُّلمِ، وكَما أنَّه لا يَجوزُ الإكراهُ على البَيعِ بغَيرِ حَقٍّ، فيَجوزُ أو يَجِبُ الإكراهُ عليه بحَقٍّ، مِثلُ بَيعِ المالِ لقَضاءِ الدَّينِ الواجِبِ ((الطرق الحكمية)) لابن القيم (2/640)، بتصرف.

انظر أيضا: