الموسوعة الفقهية

المَطْلَبُ الأوَّلُ: جَهالةُ الثَّمَنِ في البَيعِ


اختَلَف العُلَماءُ في حُكْمِ جَهالةِ الثَّمَنِ في البَيْعِ على قَولَينِ:
القَولُ الأوَّلُ: يَبطُلُ البَيْعُ مع الجَهْلِ بالثَّمَنِ، وذلك باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهيَّةِ الأربعةِ: الحَنَفيَّةِ ، والمالِكيَّةِ ، والشَّافِعيَّةِ ، والحَنابِلةِ ، وحُكِيَ الإجماعُ على ذلك
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
عن أبي هُرَيرةَ قال: ((نَهى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن بَيعِ الحَصاةِ، وعن بَيعِ الغَرَرِ ))
وَجْهُ الدَّلالةِ:

أنَّ الجَهْلَ بالثَّمَنِ غَرَرٌ، فيَدخُلُ في النَّهيِ الوارِدِ في الحَديثِ
ثانيًا: لأنَّ الثَّمنَ أحَدُ العِوَضَينِ، فاشتُرِطَ العِلمُ به كالمَبيعِ
ثالِثًا: لأنَّ المَبيعَ يُحتَمَلُ رَدُّه بعَيبٍ ونَحوِه، فلَو لم يَكُنِ الثَّمَنُ مَعلومًا لتَعَذَّرَ الرُّجوعُ به
رابعًا: لأنَّه إذا كانَ مَجهولَ الوَصفِ تَتَحَقَّقُ المُنازَعةُ؛ فالمُشتَري يُريدُ دَفعَ الأقَلِّ، والبائِعُ يَطلُبُ الأرفَعَ، فلا يَحصُلُ مَقصودُ شَرعيَّةِ العَقدِ
القَولُ الثَّاني: يَصِحُّ البَيعُ مَعَ الجَهْلِ بالثَّمنِ، ولَهُ ثَمَنُ المِثلِ، وهو رِوايةٌ عن أحمَدَ ، واختيارُ ابنِ تَيمِيَّةَ ، وابنِ القَيِّمِ
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِنَ الكِتابِ
قال اللهُ تعالى: لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً [البقرة: 236]
وَجْهُ الدَّلالةِ:
أنَّ الآيةَ دَلَّت على أنَّه يَجوزُ عَقْدُ النِّكاحِ دونَ فَرْضٍ مُحَدَّدِ -وهو الصَّداقُ- فإذا تَمَّ العَقْدُ على هَذا صارَ صَداقُها صَداقَ المِثلِ، فالبَيْعُ أَولى
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((كُنَّا مَعَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في سَفَرٍ، فكُنتُ على بَكرٍ صَعبٍ لعُمَرَ، فكانَ يَغلِبُني، فيَتَقدَّمُ أمامَ القَومِ، فيَزجُرُه عُمَرُ ويَرُدُّه، ثُمَّ يَتَقدَّمُ فيَزجُرُه عُمَرُ ويَرُدُّه، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لعُمَرَ: بِعْنِيه. قال: هو لكَ يا رَسولَ اللهِ. قال: بِعْنِيه، فباعَهُ مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هو لكَ يا عَبدَ اللهِ بنَ عُمَرَ تَصنَعُ به ما شِئْتَ ))
وَجْهُ الدَّلالةِ:

في الحَديثِ دَلالةٌ على أنَّه باعَه مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَيعًا مُطلَقًا ولَم يُعَيِّن ثَمَنًا؛ فدَلَّ على جَوازِ البَيعِ المُطلَقِ بدونِ تَعيينِ الثَّمَنِ
ثالِثًا: أنَّ المُعاوَضةَ بثَمَنِ المِثلِ ثابِتةٌ بالنَّصِّ والإجماعِ في النِّكاحِ، وبِالنَّصِّ في إجارةِ المُرضِعِ في قَولِه تعالى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ الطلاق: 6، وعَمَلُ النَّاسِ قديمًا وحَديثًا عليه في كَثيرٍ مِن عُقودِ الإجارةِ

انظر أيضا:

  1. (1) عند الحَنَفيَّةِ: ينعَقِدُ البَيعُ فاسِدًا. ((تبيين الحقائق)) للزَّيلعي (4/79)، ((البناية)) للعيني (8/15)، ((البحر الرائق)) لابن نجيم (5/281)، ((حاشية ابن عابدين)) (4/505).
  2. (2) ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (3/15)، ((منح الجليل)) لعليش (4/465).
  3. (3) ((المجموع)) للنووي (9/333).
  4. (4) ((الإنصاف)) للمرداوي (4/223)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (3/173).
  5. (5) قال ابنُ المنذِرِ: (أجمعوا على أنَّ من باع سِلعةً بثَمَنٍ مَجهولٍ غيرِ معلومٍ، ولا مُسَمًّى، ولا عينًا قائِمةً؛ أنَّ البيعَ فاسِدٌ) ((الإجماع)) (ص: 99). وقال ابنُ عبد البرِّ: (السُّنَّةُ المُجتمَعُ عليها أنَّه لا يجوزُ الثَّمَنُ إلَّا معلومًا) ((الاستذكار)) (6/433). وقال العيني: (والأثمانُ المُطلَقةُ)... أي: المُطلَقةُ عن الإشارةِ لا يَصِحُّ بها العَقْدُ، وكُلُّ ما هو واجِبٌ بالعقدِ يمتَنِعُ حصولُه بالجَهالةِ المُفْضِيةِ إلى النِّزاعِ... (هذا) ش: أي كونُ الجَهالةِ المُفضِيةِ إلى المنازَعةِ مانعةً م: (هو الأصلُ) ش: أي: في كتابِ البُيوعِ بالإجماعِ) ((البناية)) (8/15).
  6. (6) أخرجه مسلم (1513).
  7. (7) ((المجموع)) للنووي (9/333).
  8. (8) ((كشاف القناع)) للبهوتي (3/173)، ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (8/170).
  9. (9) ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (3/372).
  10. (10) ((حاشية ابن عابدين)) (4/529).
  11. (11) ((مجموع الفتاوى)) (29/344).
  12. (12) قال ابنُ تيميَّةَ: (لو باع ولم يُسَمِّ الثَّمَنَ، صَحَّ بثَمَنِ المِثْلِ، كالنِّكاحِ) ((الفتاوى الكبرى)) (5/387)، وينظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّةَ (29/344) ((الإنصاف)) للمرداوي (4/223).
  13. (13) قال ابنُ القَيِّمِ: (البَيعُ والشِّراءُ بالسِّعرِ لَم يَزَلْ واقِعًا في الإسلامِ حَتَّى أنَّ مَن أنكَرَه لا يَجِدُ مِنه بُدًّا، فإنَّه يَأخُذُ مِنَ اللَّحَّامِ والخَبَّازِ وغَيرِهما كُلَّ يَومٍ ما يَحتاجُ إلَيه مِن غَيرِ أن يُساوِمَه على كُلِّ حاجةٍ، ثُمَّ يُحاسِبُه في الشَّهرِ أوِ العامِ ويُعطيه ثَمنَ ذلك، فما يَأخُذُه كُلَّ يَومٍ إنَّما يَأخُذُه بالسِّعرِ الواقِعِ مِن غَيرِ مُساوَمةٍ، وكَذلك الإجارةُ بالسِّعرِ في مِثلِ دُخولِ الحَمَّامُ وغَسلِ الغَسَّالِ وطَبخِ الطَّبَّاخِ والخَبَّازِ وغَيرِهم، لَم يَزَلِ النَّاسُ يَفعَلونَ ذلك مِن غَيرِ تَقديرِ إجارةٍ اكتِفاءً مِنهم بإجارةِ المِثلِ، وقَد نَصَّ اللهُ على جَوازِ النِّكاحِ مِن غَيرِ تَسميةٍ، وحَكَمَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالمِثْلِ، فإذا كانَ هَذا في النِّكاحِ ففي سائِرِ العُقودِ مِنَ البُيوعِ والإجاراتِ أَولَى وأحرَى) ((بدائع الفوائد)) (4/75).
  14. (14) ((تفسير الطبري)) (5/ 120)، ((تفسير السمعاني)) (1/ 241) ((الإنصاف)) للمرداوي (4/223)، ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيميَّةَ (5/387).
  15. (15) أخرجه البخاري (2115).
  16. (16) ((نظرية العقد)) لابن تيميَّةَ (ص: 236).
  17. (17) ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (4/75).
  18. (18) كأن يقولَ: بِعْتُك هذا الثَّوبَ بعَشَرةٍ نَقْدًا، أو بعِشْرينَ نَسيئةً إلى شَهرٍ، ثمَّ يتفَرَّقُ البائِعُ والمُشتري من المجلِسِ دون أن يحدِّدا أحَدَ الثَّمَنينِ