الموسوعة الفقهية

المَبحَثُ الثاني: وقْفُ العَينِ التي تُستهلَكُ أو تَفْنى


اختَلَف العُلماءُ في وقْفِ العَينِ التي تُستهلَكُ؛ على قولَينِ:
القولُ الأولُ: لا يَجوزُ وقْفُ العَينِ التي تُستهلَكُ وتَفنى باستِعمالِها؛ كالمطعوماتِ والمشروباتِ، والطِّيبِ ونحوِها، وهو مَذهبُ الجُمهورِ: الحنفيَّةِ [607] ((البناية)) للعيني (7/437)، ((الفتاوى الهندية)) (2/362)، ويُنظر: ((فتح القدير)) لابن الهُمام (6/218). ، والشافعيَّةِ [608] استَثْنى بعضُ الشافعيَّةِ مِنَ الطِّيبِ: العَنبرَ والمِسكَ؛ لأنَّه يُنتفَعُ بدَوامِ شمِّه. ((منهاج الطالبين)) للنووي (ص: 168)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (2/377). ، والحنابلةِ [609] استَثْنى الحنابلةُ مِنَ المشروبِ: الماءَ، فيصِحُّ وقْفُه، وصرَّح بعضُهم أنَّه ماءُ البئر. ((شرح منتهى الإرادات)) للبُهُوتي (2/398)، ((كشاف القِناع)) للبُهُوتي (4/245). ؛ وذلك لأنَّ الوقْفَ تَحبيسُ الأصلِ وتَسبيلُ الثمَرةِ أو المنفعةِ، وما لا يُنتفَعُ به إلَّا بالإتلافِ لا يصِحُّ ذلك فيه [610] ((الشرح الكبير على متن المقنع)) لشمس الدين ابن قُدامة (6/191). ويُنظر: ((الذخيرة)) للقرافي (6/315).
القولُ الثاني: يجوزُ وقْفُ العَينِ التي تُستهلَكُ وتَفنى باستِعمالِها؛ كالمطعومات والمشروباتِ، والطِّيبِ ونحوِها، وهو مَذهبُ المالكيَّةِ [611] عندَ المالكيَّةِ وقْفُ الطعامِ يكونُ بإقراضِه، بحيث إذا احتاج إليه محتاجٌ أخَذه، ثمَّ يرُدُّ مِثلَه، وأمَّا وقْفُ الطعامِ ونحوِه ببَقاءِ عَينِه، فلا يَجوزُ؛ لأنَّه تحجيرٌ بلا منفعةٍ تعودُ على أحدٍ، ويؤدي إلى فسادِ الطعامِ المؤدِّي إلى إضاعةِ المالِ. ((حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني))(2/264)، ((حاشية البناني على شرح الزُّرْقاني على مختصر خليل)) (7/138)، ((منح الجليل)) لعُلَيْش (8/112). ، وقولُ الأَوْزاعيِّ [612] ((المغني)) لابن قُدامة (6/34). ، وهو اختيارُ ابنِ تَيميَّةَ [613] قال ابنُ تيميَّةَ: (لا فرْقَ بيْن وقْفِ ثوبٍ على الفقراءِ يَلبَسونه، أو فرَسٍ يَركَبونه، أو رَيحانٌ يشُمُّه أهلُ المسجدِ، وطِيبُ الكعبة حُكْمُه حُكمُ كِسوتِها؛ فعُلِمَ أن الطِّيب منفعةٌ مقصودةٌ، لكن قد يَطولُ بقاءُ مدَّةِ التطيُّبِ، وقد يَقصُر، ولا أثَرَ لذلك). ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيميَّة (5/426). ويُنظر: ((الاختيارات الفقهية)) لابن تيميَّة (ص: 506). ، وابنِ عُثيمين [614] قال ابن عُثيمين: (فالصَّوابُ أنَّه يَجوزُ وقْفُ الشَّيءِ الذي لا يُنتفَعُ به إلَّا بتلَفِه، فإذا قال: هذا الجِرابُ مِن التَّمرِ وقْفٌ على الفقراءِ، قُلْنا: جزاك اللهُ خيرًا، وقَبِل منك، وهو بمَنزلةِ الصدَقةِ. وهذا اختيارُ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميَّةَ رحمه الله، وهو الصَّوابُ؛ أنَّه يجوزُ وقْفُ الشَّيءِ الذي يُنتفَعُ به مع تلَفِ عَينِه). ((الشرح الممتع)) (11/18).
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِن السُّنة
عن عُثمانَ بنِ عفَّانَ رضِيَ اللهُ عنه، قال: ((هل تَعلَمون أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: مَن يَبتاعُ بِئرَ رُومةَ غفَرَ اللهُ له، فأتيتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقلْتُ: قدِ ابتَعْتُ بِئرَ رُومةَ، قال: فاجْعَلْها سِقايةً للمُسلِمينَ، وأجْرُها لك )) [615]أخرجه مطولًا النسائيُّ (3606) واللفظُ له، وأحمد (511). صحَّحه ابنُ حبَّانَ في ((صحيحه)) (6920)، والألبانيُّ في ((صحيح سنن النسائي)) (3606)، وصحَّح إسنادَه أحمدُ شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (1/248)، وصحَّحه لغيره شعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (511).
وَجهُ الدَّلالةِ:
الحديثُ يدُلُّ على جوازِ وقْفِ الماءِ، وفيه دَلالةٌ على جَوازِ وقْفِ مِثلِه، كالمطعوماتِ [616] ((الشرح الممتع)) لابن عُثيمين (11/17).
ثانيًا: لأنَّ المقصودَ مِن الوقْفِ المنفعةُ، فلا فرْقَ بيْنَ كونِها مَنفعةَ عَينٍ دائمةً، وبيْنَ كَونِها مَنفعةً مُؤقَّتةً؛ لعدَمِ الدليلِ [617] ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيميَّة (5/426).
ثالثًا: أنَّه لا يُوجَدُ دليلٌ يَمنَعُ وقْفَ العَينِ الَّتي تُستهلَكُ [618] ((الشرح الممتع)) لابن عُثيمين (11/18).
رابعًا: أنَّ المقصودَ بالوقْفِ هو إسداءُ الخَيرِ إلى الغَيرِ، وهو يَحصُلُ بوقْفِ العَينِ الَّتي تُستهلَكُ أو تَفنى [619]((الشرح الممتع)) لابن عُثيمين (11/18).

انظر أيضا: