الموسوعة الفقهية

الفرع الرَّابع: قراءة القرآن، ومسُّ المصحف، وذِكر الله


المسألة الأولى: قِراءة القرآن للحائض
تجوزُ قراءةُ القرآنِ للحائضِ، وهذا مَذهَبُ المالكيَّة ((الذخيرة)) للقرافي (1/379)، ((القوانين الفقهية)) لابن جزي (ص: 25). ، والظاهريَّة قال ابن حزم: (وقِراءة القرآن... جائز.. للجُنُبِ والحائِضِ). ((المحلى)) (1/94)، وينظر: ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (1/421)، ((المجموع)) للنووي (2/357). ، وهو قول مرويٌّ عن الشافعيِّ في القديم قال النوويُّ: (حَكى الخُراسانيُّون قولًا قديمًا للشافعيِّ: أنَّه يجوزُ لها قراءةُ القرآن... واحتجَّ مَن أثبتَ قولًا بالجوازِ اختلَفوا في علَّتِه على وجهين: أحدهما: أنَّها تخافُ النِّسيانَ لِطولِ الزَّمان، بخلافِ الجنُب. والثاني: أنَّها قد تكونُ معلِّمة فيؤدِّي إلى انقطاعِ حِرفَتِها؛ فإن قلنا بالأوَّل، جاز لها قراءةُ ما شاءت؛ إذ ليس لِما يُخاف نسيانُه ضابِطٌ، فعلى هذا هي كالطَّاهِرِ في القراءة، وإن قلنا بالثاني، لم يحِلَّ إلَّا ما يتعلَّقُ بحاجةِ التعليم في زمانِ الحَيضِ؛ هكذا ذكر الوَجهينِ وتفريعَهما إمامُ الحرمَينِ وآخَرون). ((المجموع)) (2/356)، وينظر: ((روضة الطالبين)) للنووي (1/86). ، وروايةٌ عن أحمد ((الاختيارات الفقهية)) لابن تيمية (ص: 27)، ((الإنصاف)) للمرداوي (1/249). ، واختاره الطبريُّ ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (1/423، 424). ، وابنُ تيميَّة قال ابن تيميَّة: ((أظهَرُ قولَي العُلَماءِ أنَّها لا تُمنَعُ من قراءةِ القرآن إذا احتاجت إليه، كما هو مذهَبُ مالك، وأحد القولينِ في مذهب الشافعيِّ، ويُذكَر روايةً عن أحمد؛ فإنَّها محتاجةٌ إليها ولا يُمكِنُها الطهارةُ كما يمكِنُ الجُنُبَ)) مجموع الفتاوى (26/179). , وابنُ القيِّم قال ابن القيِّم: (ومِن هذا: جوازُ قراءةِ القُرآنِ لها وهي حائِضٌ) ((أعلام الموقعين عن رب العالمين)) (3/25). ، وابنُ عُثيمين قال ابن عثيمين: (قراءةُ القُرآنِ للحائِضِ تجوزُ؛ لأنَّه ليس في ذلك سُنَّة صحيحةٌ صريحةٌ في منْعِها من قراءةِ القُرآنِ، والأصلُ الجوازُ، إلَّا أنَّه لا ينبغي أن تقرأَ القُرآنَ إلَّا لحاجةٍ؛ مراعاةً للخلافِ). ((الموقع الرسمي لابن عثيمين- فتاوى نور على الدرب)). ، وبه أفتَتِ اللجنةُ الدَّائمةُ قالت اللجنةُ الدائمة برئاسة ابن باز: (أمَّا قراءةُ الحائضِ والنُّفساءِ القرآنَ بلا مسِّ المُصحَفِ، فلا بأسَ به في أصحِّ قولَي العُلَماء؛ لأنَّه لم يثبُتْ عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما يَمنَعُ من ذلك) ((فتاوى اللجنة الدائمة- المجموعة الأولى)) (4/109).
وذلك للآتي:
أوَّلًا: أنَّ النِّساءَ كنَّ يحِضنَ على عَهدِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولم يكُنْ ينهاهنَّ عن قراءةِ القُرآنِ، ولو كانت الحائِضُ ممنوعةً منه لجاءَت الأحاديثُ الصَّحيحةُ الصريحةُ بمَنعِها، كما جاءت في مَنعِها من الصَّلاةِ والصِّيام؛ فلمَّا كانت الأحاديثُ الواردةُ لا تقوم بها حُجَّة، عُلِمَ أنَّ الشَّرعَ لم يَمنَعْها من ذلك ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (21/460).
ثانيا: أنَّ الحيضَ ليس من كسْبِ المرأة، ولا تملِكُ رَفعُه، وقد يطولُ بها، وقد تتعرَّضُ لنسيانِ ما حَفِظَت ((إعلام الموقعين عن رب العالمين)) لابن القيم (3/25).
المسألة الثَّانية: مسُّ الحائضِ المُصحَفَ
لا يجوز للحائِضِ مسُّ المصحَفِ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحنفيَّة ((الدر المختار وحاشية ابن عابدين)) (1/292،293)، وينظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/44)، ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (1/168-169). ، والمالكيَّة ((الكافي)) لابن عبدِ البَرِّ (1/172)، وينظر: ((بداية المجتهد)) لابن رشد (1/49). المالكية استثنوا المعلمة والمتعلمة. ينظر: ((منح الجليل)) لعليش (1/175). ، والشَّافعيَّة ((المجموع)) للنووي (2/ 367)، وينظر: ((الأم)) للشافعي (1/80)، ((الحاوي الكبير)) للماوردي (1/384). ، والحنابلة ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (1/111)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/197). ، وحُكِيَ عن عامَّة العُلَماءِ قال ابن عبدِ البَرِّ: (أجمع فقهاءُ الأمصار الذين تدور عليهم الفتوى وعلى أصحابِهم بأنَّ المُصحفَ لا يَمسُّه إلَّا الطَّاهِرُ، وهو قول مالك، والشافعيِّ، وأبي حنيفة، وأصحابهم، والثوريِّ، والأوزاعيِّ، وأحمدَ بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبي ثور، وأبي عُبيد، وهؤلاء أئمَّة الرأي والحديث في أعصارهم، ورُوي ذلك عن سعدِ بن أبي وقَّاص، وعبد الله بن عمر، وطاوس، والحسن، والشَّعبي، والقاسم بن محمَّد، وعطاء، وهؤلاء من أئمَّة التابعين بالمدينة ومكَّة، واليمن، والكوفة والبصرة... وأمَّا الحَكم بن عُتيبة وحمَّاد بن أبي سليمان، فلم يُختلف عنهما في إجازة حمْلِ المُصحَف بعَلاقَتِه لِمَن ليس على طَهارة، وقولُهما عندي شذوذٌ عن الجمهور، وما أعلم أحدًا تابَعَهما عليه إلَّا داودَ بنَ علي ومَن تابعه... وقد بينَّا وجهَ النَّقلِ في حديثِ عَمرِو بنِ حَزمٍ، وأنَّ الجمهورَ عليه، وهم لا يجوزُ عليهم تحريفُ تأويلٍ، ولا تلقِّي ما لا يصحُّ بقَبولٍ، وبما عليه الجمهورُ في ذلك أقول). ((الاستذكار)) (2/472، 473). وقال ابن تيمية: (يحرُمُ على الحائض.. مسُّ المُصحَف عند عامَّةِ العُلَماءِ) ((مجموع الفتاوى)) (26/176).
الأدلَّة:
أوَّلًا: من الكتاب
قال تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة: 77-79]
وجه الدَّلالة:
أنَّ المطهَّرَ هو المتطهِّرُ مِن الحدَثين: الأصغَرِ والأكبَرِ، ومنه الحيضُ ((فتاوى نور على الدرب لابن باز بعناية الطيار)) (ص: 83).
ثانيًا: مِن السُّنَّةِ
 حديثُ: ((لا يَمسَّ القرآنَ إلَّا طاهرٌ )) رواه الطبراني (12/313) (13217)، والدارقطني (1/121)، والبيهقي (417). من حديث عبدالله بن عمر رَضِيَ اللهُ عنهما. جوَّد إسناده ابن الملقِّن في ((شرح البخاري)) (5/31)، ووثق رجاله الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/281) وصحَّحه الألباني في ((صحيح الجامع)) (7780). وأخرجه الدارمي (2266)، وابن حبان (6559)، والبيهقي (416). من حديث عمرو بن حزم رَضِيَ اللهُ عنه. قال الإمام أحمد كما في ((السنن الكبرى)) للبيهقي (4/89): أرجو أن يكون صحيحًا. ورواه الدارميُّ وأبو زرعة الرازيُّ وأبو حاتم الرازيُّ- كما في ((السنن الكبرى)) للبيهقي (4/89)-: موصولَ الإسناد حسنًا. وجوَّده ابن الملقِّن في ((شرح البخاري)) (5/26)، وحسَّنه ابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (2/386)، وصحَّحه ابن باز في ((مجموع الفتاوى)) (24/336)، والألباني في ((إرواء الغليل)) (122). ورواه مالكٌ في ((الموطَّأ)) (2/278)، والبيهقيُّ في ((معرفة السُّنن والآثار)) (1/318) (212) من حديث عبدالله بن أبي بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم في كتابه المشهور. قال ابن عبدِ البَرِّ في ((التمهيد)) (17/396): الدَّليل على صحَّة الكتاب تلقِّي جمهور العلماء له بالقَبول. وقال ابن دقيق العيد في ((الإلمام)) (1/87): مرسل، ومِن الناس مَن يُثبت هذا الحديث بشُهرة الكتاب وتلقِّيه بالقبول، ويرى أنَّ ذلك يُغني عن طلب الإسناد. وصحَّحه الألباني مرسلًا في ((أداء ما وجب)) (110) وقال: إلَّا أنَّه جاء موصولًا.
وجه الدَّلالة:
أنَّ الطَّاهِرَ هو الطاهِرُ من الحدَثين: الأصغَر والأكبَر، ومن ذلك الطَّهارةُ مِن الحَيضِ قال إسحاق بن راهويه: (لا يقرأ أحدٌ في المُصحَفِ إلَّا وهو متوضِّئٌ، وليس ذلك لقولِ اللهِ عزَّ وجلَّ: لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ **الواقعة: 79**، ولكِن لِقَولِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا يمسَّ القرآنَ إلَّا طاهِرٌ)).) ((الاستذكار)) (2/472، 473).
ثالثًا: من الآثار
عن عبد الرَّحمن بن يزيدَ عن سلمانَ الفارسيِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (كنَّا معه في سفرٍ، فانطلَقَ فقضى حاجتَه، ثمَّ جاء، فقلت: أيْ أبا عبدِ الله، توضَّأْ؛ لعلَّنا نسألُك عن آيٍ من القرآنِ، فقال: سَلُوني؛ فإنِّي لا أَمسُّه؛ إنَّه لا يَمسُّه إلَّا المطهَّرونَ، فسأَلْناه، فقرأ علينا قبل أن يتوضَّأَ) رواه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (1106)، والدارقطني (1/124)، والبيهقي (430). صححه الدارقطني (1/124)، وجوَّده الزيلعي في ((نصب الراية)) (1/199).
المسألة الثَّالثة: ذِكرُ الله تعالى
يجوز للحائِضِ والنُّفساءِ ذِكرُ الله عزَّ وجلَّ، باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحنفيَّة ((الدر المختار للحصكفي وحاشية ابن عابدين)) (1/293)، وينظر: ((الجوهرة النيرة)) (1/31). ، والمالكيَّة ((مواهب الجليل)) للحطاب (1/375). ، والشافعيَّة ((المجموع)) للنووي (2/357)، وينظر: ((الأم)) للشافعي (2/171). ، والحنابلة ((المغني)) لابن قدامة (1/106)، ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قدامة (1/207). ، وحُكِيَ الإجماعُ على ذلك قال البغوي في الجنب والحائض: (واتَّفقوا على أنَّه يجوزُ لهما ذِكرُ الله- سبحانه وتعالى- بالتسبيحِ والتَّحميدِ والتَّهليلِ وغَيرِهما) ((شرح السنة)) (2/44،43). وقال ابنُ قدامة: (فإنَّه لا خلافَ في أنَّ لهم ذِكرَ الله تعالى، ويحتاجونَ إلى التَّسميةِ عند اغتسالِهم، ولا يمكِنُهم التحرُّزُ من هذا) ((المغني)) (1/106). وقال النوويُّ: (أجمَعَ العُلَماءُ على جوازِ التَّسبيحِ والتَّهليلِ وسائِرِ الأذكارِ، غيرَ القرآن للحائِضِ والنُّفساء) ((المجموع)) (2/357). وقال ابن تيمية: (والحائِضُ لا يُستحَبُّ لها شيء من ذلك، ولا يُكرَه الذِّكرُ بدونه عند أحدٍ مِن العلماء؛ للسنَّة المتواترة في ذلك). ((مجموع الفتاوى)) (26/191). ذكر الخلافَ في المسألةِ الطَّحاوي، فقال- بعدما أورد الحديثَ، عن المُهاجِر، أنَّ النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يبولُ، أو قال: مررتُ به وقد بال، فسلَّمْتُ عليه، فلم يرُدَّ عليَّ، حتى فرغَ من وضوئه، ثم رد عليَّ-: (فذهب قومٌ إلى هذا فقالوا: لا ينبغي لأحدٍ أن يذكُرَ اللهَ تعالى بشيءٍ إلا وهو على حالٍ يجوزُ له أن يصلِّيَ عليها. وخالَفَهم في ذلك آخَرون فقالوا: من سَلَّم عليه، وهو على حالِ حَدَثٍ، تيمَّم وردَّ عليه السَّلامَ، وإن كان في المِصرِ، وقالوا فيما سوى السَّلامِ، مثل قول أهلِ المقالةِ الأولى، وكان ممَّا احتجوا به في ذلك ما حدَّثَنا به ربيعُ المؤذن...). ثم ذكر أدلَّتَهم ((شرح معاني الآثار)) (1/85-87).
الأدلة مِن السُّنَّةِ:
1- قولُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لعائِشةَ وهي حائِضٌ: ((افعلي ما يفعَلُ الحاجُّ غيرَ أنْ لا تطُوفي بالبيتِ حتى تطهُرِي )) أخرجه البخاري 1650 ومسلم 1211 واللفظ له.
وجه الدلالة:
أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يستَثنِ مِن جميعِ مناسِكِ الحَجِّ إلَّا الطَّوافَ، وأعمالُ الحَجِّ مُشتمِلةٌ على ذِكرٍ وتلبيةٍ ودعاءٍ، ولم تُمنَعِ الحائِضُ من شيءٍ مِن ذلك ((فتح الباري)) لابن حجر (1/407).
2- عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((كان رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يذكُرُ اللهَ على كلِّ أحيانِه )) رواه مسلم (117).
وجه الدلالة:
عمومُ قَولِها (على كلِّ أحيانِه)، ومن ذلك حالُ الجنابةِ، ويُقاسُ عليها الحَيضُ.

انظر أيضا: