الموسوعة الفقهية

المطلَبُ الثاني: وقْفُ السَّكرانِ الذي أدخَلَ على نفْسِه السُّكرَ باختيارِه


اختَلَف العُلماءُ في وقْفِ السَّكرانِ الذي أدخَلَ على نفْسِه السُّكرَ باختيارِه؛ على قَولينِ:
القولُ الأولُ: يصِحُّ وقْفُ السَّكرانِ الذي أدخَلَ على نفْسِه السُّكرَ باختيارِه، وهو مَذهبُ الجُمهورِ : الحنفيَّةِ ، والشافعيَّةِ ، والحنابلةِ
وذلك للآتي:
أوَّلًا: لأنَّ الصحابةَ جعَلوه كالصاحي في الحدِّ بالقذْفِ
ثانيًا: لأنَّه فرَّطَ بإزالةِ عقْلِه فيما يُدخِلُ فيه ضرَرًا على غَيرِه، فأُلزِمَ حكْمَ تَفريطِه؛ عقوبةً له
القولُ الثاني: لا يصِحُّ وقْفُ السَّكرانِ مُطلَقًا، وهو المشهورُ مِن مَذهبِ المالكيَّةِ ، وروايةٌ عن أحمدَ ، وهو اختيارُ ابنِ حزْمٍ ، وابنِ تَيميَّةَ ، وابنِ القيِّمِ ، وابنِ عُثَيمين
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِن الكتابِ
قولُه تَعالى: لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ[النساء: 43]
وَجهُ الدَّلالةِ:
بيَّن اللهُ سُبحانه وتَعالى في الآيةِ أنَّ السَّكرانَ لا يَعلَمُ ما يقولُ، فلم يُرتِّبْ على كلامِه حكْمًا حتى يكونَ عالمًا بما يقولُ؛ لأنَّه غيرُ مخاطَبٍ
ثانيًا: مِن السُّنة
قَولُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ، وإنَّما لكُلِّ امرئٍ ما نَوى ))
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ كلَّ لفظٍ بغيرِ قصْدٍ مِن المتكلِّمِ وعدَمِ عقْلٍ لا يَترتَّبُ عليه حكْمٌ
ثالثًا: قياسًا على مَن زال عقْلُه بدواءٍ ونحوِه، فالسَّكرانُ لا قصْدَ له؛ فهو أَولى بعدَمِ المؤاخَذةِ
رابعًا: أنَّ عِبادةَ السَّكرانِ -كالصَّلاةِ- لا تصِحُّ بالنَّصِّ والإجماعِ، وكلُّ مَن بطَلَت عِبادتُه لعدَمِ عقْلِه، فبُطلانُ عقُودِه أَولى وأحْرى
خامسًا: أنَّ جميعَ الأقوالِ والعقودِ مَشروطةٌ بوُجودِ التَّمييزِ والعقْلِ، فمَن لا تَمييزَ له ولا عقْلَ، ليس لكلامِه في الشَّرعِ اعتِبارٌ أصلًا

انظر أيضا:

  1. (1) الجمهورُ يَرَون صحَّةَ تصرُّفاتِ السَّكرانِ الذي أدخَل على نفْسِه السُّكرَ باختيارِه، ومِن ذلك الوقْفُ.
  2. (2) ((الفتاوى الهندية)) (5/415)، ((حاشية ابن عابدين)) (3/239، 240).
  3. (3) ((المجموع)) للنووي (9/155)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (2/219). ويُنظر: ((الغرر البهية)) لزكريا الأنصاري (4/246).
  4. (4) ((كشاف القِناع)) للبُهُوتي (5/234)، ((شرح منتهى الإرادات)) للبُهُوتي (3/75).
  5. (5) ((شرح منتهى الإرادات)) للبُهُوتي (٣/٧٥).
  6. (6) ((شرح منتهى الإرادات)) للبُهُوتي (٣/٧٥).
  7. (7) ((مواهب الجليل)) للحطَّاب (6/31، 32)، ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (3/397).
  8. (8) ((الإنصاف)) للمَرْداوي (8/321).
  9. (9) قال ابنُ حزمٍ -في حديثِه عن عدَم صِحَّةِ تصرُّفاتِ السَّكرانِ-: (بُرهانُ ذلك: قولُ اللهِ تعالى: لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [النساء: 43] ؛ فبيَّنَ الله تعالى أنَّ السَّكرانَ لا يَعلَمُ ما يقولُ، فمَن لم يَعلَمْ ما يقولُ فهو سَكرانُ، ومَن عَلِم ما يقولُ فليس بسَكرانَ، ومَن خلَط فأتَى بما يُعقَلُ وما لا يُعقَلُ فهو سَكرانُ؛ لأنَّه لا يَعلَمُ ما يقولُ. ومَن أخبَر اللهُ تعالى أنَّه لا يَدري ما يقولُ فلا يحِلُّ أن يُلزَمَ شَيئًا مِنَ الأحكامِ؛ لا طلاقًا، ولا غَيْرَه؛ لأنَّه غيرُ مخاطَبٍ؛ إذ ليس مِن ذَوي الألبابِ). ((المحلى)) (9/472).
  10. (10) قال ابنُ تيميَّةَ -في حديثِه عن عدَمِ صِحَّةِ تصرُّفاتِ السَّكرانِ-: (... جميع الأقوالِ والعقودِ مَشروطةٌ بوجودِ التَّمييزِ والعقلِ، فمَن لا تمْييزَ له ولا عقْلَ ليس لكلامِه في الشَّرعِ اعتبارٌ أصلًا... كلُّ لفظٍ بغيرِ قصْدٍ مِنَ المتكلِّمِ -لسهْوٍ، وسبْقِ لسانٍ، وعدَمِ عقْلٍ- فإنَّه لا يَترتَّبُ عليهحُكْمٌ). ((مجموع الفتاوى)) (33/107).
  11. (11) قال ابنُ القيِّمِ -في حديثِه عن عدَمِ صِحَّةِ تصرُّفاتِ السَّكرانِ-: (الصحيحُ أنَّه لا عِبرةَ بأقوالِه مِن طلاقٍ، ولا عَتاقٍ، ولا بَيعٍ، ولا هِبَةٍ، ولا وَقْفٍ، ولا إسلامٍ، ولا رِدَّةٍ، ولا إقرارٍ). ((إعلام الموقعين)) (5/454).
  12. (12) قال ابنُ عُثيمين: (الصَّحيحُ أنَّ السَّكرانَ لا يُؤاخَذُ بأقوالِه؛ فلا يقَعُ عِتقُه، ولا طلاقُه، ولا وقْفُه، ولا إقرارُهـ). ((الشرح الممتع)) (14/22).
  13. (13) ((المحلَّى)) لابن حزم (9/472)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيِّم (4/516).
  14. (14) أخرجه البخاري (1) واللفظُ له، ومسلم (1907).
  15. (15) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (33/107).
  16. (16) ((إعلام الموقعين)) لابن القيِّم (5/454).
  17. (17) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (33/107).
  18. (18) ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (33/107).