الموسوعة الفقهية

المَطلَبُ الأوَّل: ما يَسبِقُ على لسانِ المتكَلِّمِ بلا قَصدٍ


ما يَسبِقُ على لسانِ المتكَلِّمِ بلا قَصدٍ يُعَدُّ لَغْوًا، ولا تَنعقِدُ به اليَمينُ، ولا كَفَّارةَ فيه، وهذا مَذهَبُ الشَّافِعيَّةِ [458] ((الأم للشافعي)) (7/64)، ((منهاج الطالبين)) للنووي (ص: 326)، ((تحفة المحتاج)) لابن حجر الهيتمي (10/12). ، والحنابِلةِ [459] ((الإنصاف)) للمَرْداوي (11/16)، ((الإقناع)) للحَجَّاوي (4/334). ، وقَولٌ للمالِكيَّةِ [460] ((شرح ابن ناجي التَّنُوخي على متن الرسالة)) (1/410)، ((التاج والإكليل)) للموَّاق (3/267). ، وهو قَولُ ابنِ حَزمٍ [461] قال ابنُ حزمٍ: (لَغْوُ اليمينِ لا كفَّارةَ فيه، ولا إثمَ. وهو وَجْهانِ: أحَدُهما: ما حَلَفَ عليه المرءُ وهو لا يَشُكُّ في أنَّه كما حَلَفَ عليه، ثمَّ تَبيَّنَ له أنَّه بخِلافِ ذلك. وهو قَولُ أبي حنيفةَ، ومالكٍ، وأبي سُليمانَ. والثاني: ما جَرى به لِسانُ المرءِ في خِلالِ كَلامِه بغَيرِ نيَّةٍ، فيَقولُ في أثناءِ كلامِه: لا واللهِ، وإي واللهِ. وهو قَولُ الشَّافِعيِّ، وأبي سُليمانَ... أمَّا قَولُ المرءِ: «لا واللهِ، وإي واللهِ» بغَيرِ نيَّةٍ، فأمْرُه ظاهِرٌ لا إشكالَ فيه؛ لأنَّه نَصُّ القرآنِ، كما قالت أُمُّ المؤمِنينَ رَضيَ اللهُ عنها. وأمَّا مَن أقسَمَ على شَيءٍ وهو يَرى ولا يَشُكُّ في أنَّه كما حَلَف عليه، فإنَّه لم يَعمِدِ الحِنثَ، ولا قصَدَ له، ولا حِنثَ إلَّا على مَن قصَدَ إليه). ((المحلى)) (6/286، 287). ، وابنِ تيميَّةَ [462] قال ابنُ تيميَّةَ: (وهؤلاء منهم مَن قال: لَغْوُ اليَمينِ هو: أنْ يَحلِفَ على شَيءٍ يَعتقِدُه كما حَلَف عليه، فتَبيَّنَ بخِلافِه، بلا نِزاعٍ. وأمَّا إذا سَبَق لسانُه في المُستقبَلِ؛ ففيه روايتانِ... وعلى هذا فالحالِفُ بالطَّلاقِ على أمرٍ يَعتقِدُه كما حَلَف عليه فتَبيَّنَ بخِلافِه لا يَحنَثُ إذا لم يَحنَثِ النَّاسي والجاهِلُ في المُستقبَلِ). ((مجموع الفتاوى)) (33/212). ، والصَّنْعانيِّ [463] قال الصَّنْعانيُّ: (فيه دليلٌ على أنَّ اللَّغوَ مِنَ الأَيمانِ ما لا يَكونُ عن قَصدِ الحَلِفِ، وإنَّما جَرى على اللِّسانِ مِن غَيرِ إرادةِ الحَلِفِ. وإلى تفسيرِ اللَّغوِ بهذا ذهَبَ الشَّافِعيُّ، ونقَلَه ابنُ المُنذِرِ عن ابنِ عُمرَ وابنِ عبَّاسٍ وغَيرِهما مِنَ الصَّحابةِ وجماعةٍ مِنَ التَّابِعينَ. وذهَبَ الهادَويَّةُ والحَنفيَّةُ إلى أنَّ لَغوَ اليَمينِ أنْ يَحلِفَ على الشَّيءِ يَظُنُّ صِدقَه فيَنكشِفُ خِلافُه. وذهَبَ طاوسٌ إلى أنَّها الحَلِفُ وهو غَضْبانُ. وفي ذلك تفاسيرُ أُخَرُ لا يَقومُ عليها دليلٌ، وتفسيرُ عائشةَ أقرَبُ؛ لأنَّها شاهدَتِ التَّنزيلَ، وهي عارفةٌ بلُغةِ العربِ). ((سبل السلام)) (2/554). ، وابنِ بازٍ [464] قال ابنُ باز: (أمَّا عندَ عدَمِ اليَمينِ لكَونِه يَتكلَّمُ باليَمينِ مِن غَيرِ قَصدٍ، بلْ جرَتْ على لِسانِه مِن غَيرِ قَصدٍ؛ مِثلُ: واللهِ ما أَقومُ، واللهِ ما أَتكلَّمُ، واللهِ ما أذهَبُ لكذا... إلى آخِرِه، ولم يَتعمَّدْها، بلْ جرَتْ على لسانِه لكنْ مِن غَيرِ قَصدٍ، أي: عقَدَ اليَمينِ على هذا الشَّيءِ مِن غَيرِ قَصدِ القلبِ على فِعلِ هذا الشَّيءِ؛ هذا هو لَغْوُ اليَمينِ، قَولُ الرَّجُلِ: لا واللهِ، كما جاء في هذا المعنى عن عائشةَ رَضيَ اللهُ عنها وغَيرِها في اللَّغوِ باليمينِ). ((مجموع فتاوى ابن باز)) (24/198). ، وابنِ عُثيمينَ [465] قال ابنُ عُثيمينَ: (قَولُه: «كقَولِه: لا واللهِ، وبلى واللهِ»: والدَّليلُ على أنَّ هذا مِن لَغوِ اليمينِ قولُه تعالى: لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ [المائدة: 89] ، وقولُه تعالى: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [البقرة: 225] ، ولا تَكسِبُ القُلوبُ إلَّا ما قُصِد؛ لأنَّ ما لا يُقصَدُ ليس مِن كَسبِ القلبِ). ((الشرح الممتع)) (15/132). وقال: (قولُه: «الَّذي يَجري على لِسانِه بغَيرِ قَصدٍ» يعني: يُطلِقُه لِسانُه وهو لا يَقصِدُه، وهذا ليس فيه كفَّارةٌ بنَصِّ القُرآنِ... «وكذا يَمينٌ عَقَدَها يَظُنُّ صِدقَ نفْسِه فبانَ بخِلافِه، فلا كفَّارةَ في الجميعِ» أي: إنَّه عَقَدها ونَواها وهو يَظُنُّ صِدقَ نفْسِه... ولكنَّ الصَّحيحَ أنَّها ليست مِن لَغوِ اليَمينِ، وأنَّها يمينٌ مُنعقِدةٌ لكنْ لا حِنثَ فيها؛ لأنَّه في الحقيقةِ بارٌّ لا حانثٌ؛ وذلك لأنَّه حين قال: «واللهِ لقد حضَرَ» يَعتقِدُ حُضورَه، وهو إلى الآنَ يَعتقِدُ حُضورَه، ولكنْ لأنَّ الشُّهودَ شَهِدوا بأنَّه لم يَحضُرْ فهُم آكَدُ مِنِّي). ((الشرح الممتع)) (15/132). ، وحُكيَ الإجماعُ على ذلك [466] قال القرطبيُّ: (قال المَروزيُّ: لَغوُ اليمينِ الَّتي اتَّفَقَ العلماءُ على أنَّها لَغْوٌ هو قَولُ الرجُلِ: «لا واللهِ، وبلى واللهِ» في حديثِه وكلامِه غَيْرَ مُعتقِدٍ لليمينِ ولا مُريدِها). ((تفسير القرطبي)) (3/99).
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِنَ الكِتابِ
1-قَولُه تعالى: لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ [المائدة: 89]
 2- قَولُه تعالى: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [البقرة: 225]
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ القُلوبَ لا تَكْسِب إلَّا ما قَصَدَتْ [467] ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (15/132).
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ
عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها: ((أُنزِلَت هذه الآيةُ: لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ [البقرة: 225] في قَولِ الرَّجُلِ: لا واللهِ، وبلى واللهِ )) [468] أخرجه البخاري (4613).
ثالثًا: مِنَ الآثارِ
عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: (أيمانُ اللَّغوِ ما كان في المِراءِ، والهَزْلِ، ومُزاحةِ الحَديثِ الذي لا يُعقَدُ عليه القَلبُ، وإنَّما الكَفَّارةُ في كُلِّ يَمينٍ حَلَفْتَها على جِدٍّ مِن الأمرِ في غَضَبٍ، أو غَيرِه: لَتَفعَلَنَّ، أو لَتَترُكَنَّ؛ فذلك عَقدُ الأيمانِ التي فَرَضَ اللهُ فيها الكَفَّارةَ) [469] أخرجه من طرقٍ: الطَّبريُّ في ((التفسير)) (4457)، والبَيْهَقيُّ (20428) واللَّفظُ له. صحَّح إسنادَه ابنُ رجب في ((جامع العلوم والحِكَم)) (1/376).

انظر أيضا: