الموسوعة الفقهية

الفَرعُ الثَّاني: حُكمُ انعِقادِ اليَمينِ الغَمُوسِ


لا تَنعقِدُ اليَمينُ الغَمُوسُ، ولا كفَّارةَ فيها سِوى التَّوبةِ والاستِغفارِ [442] قال ابنُ القيم: (وما كان من المعاصي مُحرَّمَ الجِنسِ، كالظُّلمِ، والفواحِشِ؛ فإنَّ الشَّارعَ لم يَشرَعْ له كفَّارةً؛ ولهذا لا كفَّارةَ في الزِّنا، وشُربِ الخَمرِ، وقَذفِ المُحصَناتِ، والسَّرِقة، وطَرْدُ هذا أنَّه لا كفَّارةَ في قَتلِ العَمْدِ، ولا في اليَمينِ الغَمُوسِ، كما يقولُه أحمد، وأبو حنيفةَ، ومَن وافقهما، وليس ذلك تخفيفًا عن مرتكِبِهما، بل لأنَّ الكفَّارةَ لا تَعمَلُ في هذا الجِنسِ مِن المعاصي، وإنَّما عَمَلُها فيها فيما كان مُباحًا في الأصلِ وحُرِّم لعارضٍ، كالوَطءِ في الصِّيامِ والإحرامِ). ((إعلام الموقعين)) (2/76). ، وهو مَذهَبُ الجُمهورِ: الحَنفيَّةِ [443] ((شرح مختصر الطحاوي)) للجَصَّاص (7/376)، ((مختصر القُدُوري)) (ص: 209). ، والمالِكيَّةِ [444] ((الكافي في فقه أهل المدينة)) لابن عبد البر (1/447)، ((التاج والإكليل)) للموَّاق (3/271). ، والحَنابِلةِ [445] ((الإقناع)) للحَجَّاوي (4/333)، ((شرح منتهى الإرادات)) للبُهُوتي (3/443). ، وقَولُ أكثَرِ أهلِ العِلمِ [446] قال ابنُ عَبدِ البَرِّ: (وقد اختلَفَ العُلماءُ في كَفَّارتِها؛ فأكثَرُ أهلِ العِلمِ لا يَرَوْنَ في اليَمينِ الغَموسِ كفَّارةً). ((الاستذكار)) (5/191). وقال ابنُ الملقِّن: (اليمينُ الغَمُوسُ: هي أن يحلِفَ الرَّجُلُ على الشَّيءِ وهو يَعلَمُ أنَّه كاذِبٌ؛ لِيُرضِيَ بذلك أحدًا، أو لِيُعذَرَ، أو ليَقتَطِعَ بها مالًا... ولا كفَّارةَ فيها عند مالك... نقله ابنُ بطَّالٍ أيضًا عن جمهور العُلَماءِ، وبه قال النَّخَعيُّ، والحسَنُ البَصريُّ، ومالِكٌ، ومَن تَبِعَه من أهل المدينة، والأوزاعيُّ في أهلِ الشَّامِ، والثَّوْريُّ، وسائِرُ أهلِ الكوفةِ، والحَسَنُ ابنُ صالح، وأحمدُ، وإسحاقُ، وأبو ثَورٍ، وأبو عُبَيدٍ، وأصحابُ الحَديثِ). ((التوضيح لشرح الجامع الصحيح)) (30/319). ، وحُكِيَ إجماعُ الصَّحابةِ على عَدَمِ الكفَّارةِ فيها [447] قال ابنُ الملَقِّن: (قال ابنُ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه: كنَّا نَعُدُّ الذَّنْبَ الذي لا كفَّارةَ له اليَمينَ الغَمُوسَ: أن يحلِفَ الرَّجُلُ على مالِ أخيه كاذِبًا؛ لِيَقتَطِعَه. ولا مخالِفَ من الصَّحابةِ؛ فصار كالإجماعِ). ((التوضيح لشرح الجامع الصحيح)) (30/321).
الأدِلَّة:
أولًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَن حَلَفَ على يَمينٍ لِيَقتَطِعَ بها مالًا، لَقِيَ اللهَ وهو علَيهِ غَضْبانُ )) [448] أخرجه البخاري (2673) واللفظ له، ومسلم (138).
وَجهُ الدَّلالةِ:
ذكَرَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المأثَمَ في اليَمينِ الغَموسِ، ولم يَذكُرْ كَفَّارةً، ولو كان فيها كَفَّارةٌ لَذَكَرَها [449] ((الاستذكار)) لابن عبد البر (5/191).
2- عن عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((جاء أعرابيٌّ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: يا رَسولَ اللهِ، ما الكبائِرُ؟ - فذكر الحديثَ، وفيه: اليَمينُ الغَموسُ، وفيه: قُلتُ: وما اليَمينُ الغَمُوسُ؟ قال: الَّتي يُقتَطَعُ بها مالُ امرئٍ مُسلِمٍ، هو فيها كاذِبٌ )) [450] أخرجه البخاري (6920).
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذكَرَ الإثمَ فيها، ولم يَذكُرْ كفَّارةً [451] ((التوضيح لشرح الجامع الصحيح)) لابن الملقِّن (30/319). ويُنظر: ((سُبُل السلام)) للصَّنْعاني (2/553).
3- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن حَلَف باللَّاتِ والعُزَّى، فلْيَقُلْ: لا إلهَ إلا اللهُ )) [452] أخرجه البخاري (4860)، ومسلم (1647) واللَّفظُ له.
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يجعَلْ لهذا الحَلِفِ الآثمِ كفَّارةً؛ فكذا اليمينُ الغَمُوسُ [453] قال القاضي عِياض: (فلم يجعَلْ عليه كفَّارةً، وأمَرَه بمقابلةِ ذلك القَولِ السَّيِّئِ وإِتْباعِه بالقَولِ الحَسَنِ؛ فإنَّ الحَسَناتِ يُذهِبْنَ السَّيِّئاتِ، وهى حُجَّتُنا في أنْ لا كفَّارةَ في اليَمينِ الغَمُوسِ). ((إكمال المُعْلِم بفوائد مسلم)) (1/389).
ثانيًا: أنَّ الكَفَّارةَ لم تُشرَعْ في المعاصي مُحَرَّمةِ الجِنسِ؛ كالزِّنا، وشُربِ الخَمرِ، وكذلك اليَمينُ الغَموسُ، وليس ذلك تَخفيفًا عن مُرتَكِبِهما؛ بلْ لأنَّ الكفَّارةَ لا تَعمَلُ في هذا الجِنسِ مِنَ المَعاصي، وإنَّما عَمَلُها فيها فيما كان مُباحًا في الأصلِ وحُرِّمَ لعارِضٍ [454] ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (2/76).
ثالثًا: قد أَجمعَتِ الأُمَّةُ على أنَّ الإشراكَ باللهِ وعُقوقَ الوالدَينِ وقَتْلَ النَّفْسِ لا كَفَّارةَ فيها، وإنَّما كَفَّارتُها تَرْكُها والتَّوبةُ منها؛ فكذلك اليَمينُ الغَموسُ حُكْمُها حُكْمُ ما ذُكِر معها في الحديثِ في سُقوطِ الكَفَّارةِ [455] ((شرح صحيح البخارى)) لابن بطَّال (6/132).
رابعًا: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عَظَّمَ الخَطأَ في هذه الأَيمانِ، وشَدَّدَ الوَعيدَ فيها، ولم يَجعَلْ لها كَفَّارةً؛ لأنَّ الكَفَّارةَ لحَلِّ الأَيمانِ المُنعقِدةِ، لا لإزالةِ المَأثمِ، وهذه ليست بأَيمانٍ مُنعقِدةٍ [456] ((إكمال المُعْلِم)) للقاضي عياض (1/389).

انظر أيضا: