الموسوعة الفقهية

الفصل الأوَّل: تعريف التيمم، ومشروعيَّته، وأحكامه


المبحث الأول: تعريفُ التيمُّم
التيمُّم لُغةً: القَصدُ ((لسان العرب)) لابن منظور (12/22)، ((المصباح المنير)) للفيومي (2/681)، ((أنيس الفقهاء)) للقونوي (ص: 10).
التيمُّم اصطلاحًا: التعبُّدُ لله تعالى بقَصدِ الصَّعيد قال الفيوميُّ: (الصَّعيدُ في كلامِ العرَب يُطلَقُ على وجوهٍ؛ على التُّرابِ الذي على وجْهِ الأرضِِ، وعلى وجْه الأرضِ، وعلى الطَّريقِ). ((المصباح المنير)) (1/339). وقال الشَّافعيُّ: (لا يقَع اسمُ صعيدٍ إلَّا على تُرابٍ ذي غُبار) ((الأم)) (1/66). قال أبو إسحاق الزَّجَّاج: (الصَّعيدُ ليس هو التُّراب، إنَّما هو وجْهُ الأرض، ترابًا كان أو غيرَه) ((معاني القرآن وإعرابه)) (2/56). الطيِّبِ؛ لمَسحِ الوَجهِ واليدينِ به ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (1/373).
المبحث الثاني: مشروعيَّة التيمُّم
يُشرعُ التيمُّمُ عن الحدَثِ الأصغرِ بشُروطِه.
الأدلَّة:
أوَّلًا: من الكتاب
قول الله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة: 6]
ثانيًا: مِن السُّنَّةِ
1- عن حُذيفةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((فُضِّلنا على النَّاسِ بثلاثٍ: جُعِلتْ صُفوفُنا كصفوفِ الملائكة، وجُعلَتْ لنا الأرضُ كلُّها مسجدًا، وجُعلَت تُربتُها لنا طَهورًا إذا لم نجِد الماءَ )) رواه مسلم (522).
2- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه: أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((فُضِّلت على الأنبياءِ بسِتٍّ: أُعطيتُ جوامعَ الكَلِم، ونُصِرْتُ بالرُّعب، وأُحلَّتْ لي الغنائِمُ، وجُعِلَت لي الأرضُ طَهورًا ومسجدًا، وأُرسلتُ إلى الخَلقِ كافَّةً، وخُتم بي النبيُّونَ )) رواه مسلم (523).
3- عن جابرِ بن عبد الله الأنصاريِّ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أُعطيتُ خمسًا لم يُعطَهنَّ أحدٌ قبلي: كان كلُّ نبيٍّ يُبعَثُ إلى قَومِه خاصَّة، وبُعثتُ إلى كلِّ أحمرَ وأسودَ، وأُحلَّت لي الغنائِمُ ولم تَحِلَّ لأحدٍ قبلي، وجُعلتْ لي الأرضُ طيِّبةً طَهورًا ومسجدًا؛ فأيُّما رجلٍ أدركتْه الصَّلاة، صلَّى حيث كان، ونُصرتُ بالرُّعب بين يَدَي مسيرةَ شهر، وأُعطيتُ الشَّفاعةَ )) رواه البخاري (335)، ومسلم (521) واللفظ له.
ثالثًا: من الإجماع
نقَل الإجماعَ على مشروعيَّة التيمُّمِ: النوويُّ قال النوويُّ: (أجمَعَ العُلَماءُ على جواز التيمُّم عن الحدَثِ الأصغر). ((شرح النووي على مسلم)) (4/57). ، وشمس الدين ابن قدامةَ قال شمسُ الدِّين ابنُ قُدامةَ: (يجوزُ التيمُّم للحدَث الأصغرِ بغيرِ خلافٍ علمناه، إذا وُجِدَت الشرائطُ). ((الشرح الكبير)) (1/251).
مطلب: سببُ مشروعيَّة التيمُّم
عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها زوجِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قالت: ((خرجْنا مع رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في بعضِ أسفارِه، حتى إذا كنَّا بالبَيداءِ أو بذاتِ الجيش، انقطع عِقدٌ لي، فأقام رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على التِماسِه، وأقام النَّاسُ معه وليسوا على ماءٍ، فأَتى النَّاسُ إلى أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ، فقالوا: ألَا ترى ما صنعَتْ عائشةُ؟! أقامت برسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والنَّاسِ وليسوا على ماءٍ، وليس معهم ماءٌ، فجاء أبو بكرٍ، ورسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم واضعٌ رأسَه على فخِذي قد نام، فقال: حبَسْتِ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والناسَ، وليسوا على ماءٍ، وليس معهم ماءٌ! فقالت عائشةُ: فعاتبني أبو بكرٍ، وقال: ما شاءَ الله أن يقولَ، وجعل يَطعُنُني بيَدِه في خاصِرَتي، فلا يمنَعُني من التحرُّكِ إلَّا مكانُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على فَخِذي، فقام رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حين أصبَحَ على غيرِ ماءٍ، فأنزل الله آيةَ التيمُّمِ، فتيمَّموا، فقال أُسَيدُ بن الحُضَير: ما هي بأوَّلِ بركَتِكم يا آلَ أبي بكرٍ! قالت: فبعَثْنا البعيرَ الذي كنتُ عليه، فأصبْنا العِقدَ تحتَه)) رواه البخاري (334) واللفظ له، ومسلم (367). ، وفي رواية: ((جزاكِ اللهُ خيرًا، فواللهِ ما نزل بكِ أمرٌ قطُّ، إلَّا جعل اللهُ لكِ منه مَخرَجًا، وجعلَ للمُسلمينَ فيه بركةً )) رواه البخاري (3773)، ومسلم (367).
المبحث الثَّالث: رفع التيمم للحدث
التيمُّمُ يرفَعُ الحدَث رفعًا مؤقَّتًا إلى حينِ وُجودِ الماء، وهذا مَذهَبُ الحنفيَّة ((البحر الرائق)) لابن نجيم (1/164). ، والظَّاهريَّة ((جامع المسائل)) لابن تيميَّة (2/208)، ويُنظر: ((المحلى)) لابن حزم (1/353). ، وهو قولُ طائفةٍ مِن المالكيَّة ((الفواكه الدواني)) (1/422). ، وروايةٌ عن أحمد ((مجموع الفتاوى)) (21/436)، ((جامع المسائل)) لابن تيميَّة (2/208)، ((الإنصاف)) (1/214). ، واختاره ابنُ المُنذِر قال ابن المُنذِر: (له أن يُصلِّي بتيمُّمٍ واحد صلواتٍ مكتوباتٍ وغيرَ ذلك). ((الإقناع)) (1/68). ، وابنُ تيميَّة قال ابن تيميَّة: (فدلَّ على أنَّ التيمُّمَ مُطهِّر يجعَلُ صاحبَه طاهرًا، كما يجعَلُ الماءُ مستعمِلَه في الطَّهارة طاهرًا إنْ لم يكن جنبًا ولا مُحدِثًا. فمن قال: إنَّ المتيمِّمَ جُنُب أو مُحدِث، فقد خالف الكتابَ والسنَّة، بل هو متطهِّرٌ). ((مجموع الفتاوى)) (21/404). ، والصَّنعانيُّ قال الصنعانيُّ: (الحقُّ أنَّ التيمُّمَ يقوم مقامَ الماءِ، ويرفع الجنابةَ رفعًا مؤقَّتًا إلى حالِ وِجدانِ الماءِ). ((سبل السلام)) (1/97). ، والشِّنقيطيُّ قال الشنقيطيُّ: (التيمُّمُ يرفع الحدَث رفعًا مؤقَّتًا لا كليًّا، وهذا لا مانِعَ منه عقلًا ولا شرعًا، وقد دلَّت عليه الأدلَّة; لأنَّ صحَّةَ الصَّلاة به المُجمَع عليها يلزَمُها أن المصلِّيَ غَيرُ محدِث ولا جُنبٍ، لزومًا شرعيًّا لا شكَّ فيه. ووجوب الاغتسال أو الوضوء بعد ذلك عند إمكانِه المجمَع عليه أيضًا يلزَمُه لزومًا شرعيًّا لا شكَّ فيه، وأنَّ الحدَثَ مطلقًا لم يرتفِع بالكليَّة، فيتعيَّن الارتفاعُ المؤقَّت. هذا هو الظَّاهِر). ((أضواء البيان)) (1/367). ، وابنُ باز قال ابن باز: (التيمُّم... يرفع الحدَث ما دام الماءُ غيرَ مَوجودٍ، أو كان المكلَّفُ غيرَ قادرٍ عليه؛ من أجْل مرَضٍ ونحوه). ((فتاوى نور على الدرب)) (5/327). ، وابن عُثيمين قال ابنُ عثيمين- وهو يتكلَّم عن التيمُّم-: (وهل هو رافِعٌ للحدَث، أو مبيحٌ لِما تجب له الطَّهارة؟ اختلف في ذلك: قال بعض العلماء: إنَّه رافع للحدَث. وقال آخَرون: إنَّه مُبيحٌ لِما تجب له الطَّهارةُ. والصَّواب هو القولُ الأوَّل). ((الشرح الممتع)) (1/375)، ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (11/231).
الأدلَّة:
أوَّلًا: من الكتاب
قول الله تعالى: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ [المائدة: 6]
وجه الدَّلالة:
أنَّ التيمُّمَ إذا كان طهارةً للمحدِث؛ فكيف يكون جنبًا؟! فإنَّه مع الطَّهارةِ لا يبقى حدَث، فإنَّ الطَّهارةَ مُناقضةٌ للحدَث ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (21/404)، ((جامع المسائل)) لابن تيميَّة (2/211).
ثانيًا: مِن السُّنَّةِ
عن جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنه: أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((وجُعِلَت لي الأرضُ مَسجِدًا وطَهورًا )) رواه البخاري (335) واللفظ له، ومسلم (521).
ثالثًا: أنَّ التيمُّمَ لو لم يكُن يرفَعُ الحدَث لاجتمَعَ النَّقيضان، وهما المنعُ بالحدَث، والإباحةُ للصَّلاة ونحوها؛ فإنَّ الحدَث ليس هو أمرًا محسوسًا كطهارةِ الجنُب، بل هو أمرٌ معنويٌّ يمنَعُ الصَّلاة، فمتى كانت الصَّلاةُ جائزةً، بل واجبة معه، امتنع أن يكونَ هنا مانعٌ من الصَّلاة، بل قد ارتفَعَ المانِعُ قطعًا ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (21/405)، ((جامع المسائل)) لابن تيميَّة (2/210)، وينظر: ((الفواكه الدواني)) للنفراوي (1/422).
رابعًا: أنَّه بدلٌ عن طهارةِ الماء، والقاعدة الشرعيَّة: أنَّ البَدلَ له أحكامُ المُبدَل، فلمَّا كانت الطَّهارةُ المائية تَرفَعُ الحدث، فيكون التيمُّمُ الذي هو بدَلَها مثلَها، ولا يخرُجُ عن ذلك إلَّا بدليلٍ ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (11/231)، ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (1/375).

انظر أيضا: