المَطلَبُ الثَّاني: مَعنى القُروءِ في عِدَّةِ المُطَلَّقةِ ذاتِ الحَيضِ
اختلَفَ العُلَماءُ في معنى القُروءِ
، على قَولَينِ:
القول الأول: معنى القُروءِ في عِدَّةِ المُطَلَّقةِ ذاتِ
الحَيضِ: الحَيضاتُ، وهو مَذهَبُ الحَنَفيَّة
، والحَنابِلةِ -في أصَحِّ الرِّوايتَينِ عن
أحمد-
، واختاره
ابنُ تَيميَّةَ
، و
ابنُ القيِّمِ
، و
ابنُ عُثيمين
، وهو قَولُ جُمهورِ السَّلَفِ
الأدِلَّةُ:أوَّلًا: مِنَ الكِتابِ1- قَولُه تعالى:
وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ الطلاق: 4.
وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ اللهَ تعالى نقَلَهنَّ عندَ عَدَمِ
الحَيضِ إلى الاعتدادِ بالأشهُرِ؛ فدَلَّ ذلك على أنَّ الأصلَ
الحَيضُ
2- قَولُه تعالى:
وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ البقرة: 228.
وَجهُ الدَّلالةِ:ظاهِرُ الآيةِ يَدُلُّ على وجوبِ الترَبُّصِ ثلاثةً كامِلةً، ومَن جَعَل القُروءَ الأطهارَ لم يوجِبْ ثلاثةً؛ لأنَّه يُكتفَى بطُهرَينِ وبَعضِ الثَّالِثِ، فيُخالِفُ ظاهِرَ النَّصِّ، ومن جَعَلَه
الحَيضَ أوجَبَ ثلاثةً كامِلةً، فيُوافِقُ ظاهِرَ النَّصِّ، فيكونُ أَولى مِن مُخالفتِه
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِعن
زينبَ بنتِ جحشٍ رضي الله عنها قالتْ:
((قلتُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ: إنَّها مُستحاضَةٌ، فقال: تجلِسُ أيامَ أقرائِها، ثمَّ تغتَسِلُ وتُؤخِّرُ الظُّهرَ...))
وَجهُ الدَّلالةِ:قَولُه:
((تَجلِسُ أيامَ أقرائِها)) ومعلومٌ أنَّه لا يُريدُ أيَّامَ طُهرِها، وإنَّما يُريدُ أيَّامَ حَيضِها، والنبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لا شَكَّ أنَّ تَفسيرَه هو الحُجَّةُ؛ لأنَّه يُفَسِّرُ كلامَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، وهو أفصَحُ مَن نطَقَ بالعَربيَّةِ
ثالثًا: أنَّه لم يُعهَدْ في لِسانِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم استِعمالُه بمعنى الطُّهرِ في مَوضِعٍ، فوجَبَ أن يُحمَلَ كَلامُه على المعهودِ في لِسانِه
رابعًا: أنَّ
الحَيضَ مُعَرِّفٌ لبراءةِ الرَّحِمِ؛ لأنَّ بَراءتَها إنَّما تَظهَرُ ب
الحَيضِ لا بالطُّهرِ، والحَملُ طُهرٌ ممتَدٌّ، فيَجتَمِعُ الطُّهرُ الممتَدُّ مع الطُّهرِ المحدودِ؛ فلا يَحصُلُ التعَرُّفُ بأنَّها حامِلٌ أو حائِلٌ، والتعَرُّفُ هو المقصودُ، ولا يكونُ إلَّا ب
الحَيضِ
القول الثاني: مَعنى القُروءِ في عِدَّةِ المُطَلَّقةِ ذاتِ
الحَيضِ: الأطهارُ، وهو مَذهَبُ المالِكيَّةِ
، والشَّافِعيَّةِ
، وروايةٌ عن
أحمد
، وهو اختيارُ
ابنِ حَزمٍ
، و
الشِّنقيطيِّ
، وهو قَولُ بَعضِ السَّلَفِ
الأدِلَّةُ:أوَّلًا: مِنَ الكِتابِقَولُه تعالى:
فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ الطلاق: 1.
وَجهُ الدَّلالةِ:قَولُه تعالى:
لِعِدَّتِهِنَّ أي: في عِدَّتِهنَّ، وإنَّما أمَرَ بالطَّلاقِ في الطُّهرِ لا في
الحَيضِ
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِعن
عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضي اللهُ عنه:
((أنَّه طَلَّقَ امرأتَه وهي حائِضٌ، في عَهدِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فسأل عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن ذلك، فقال له رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: مُرْه فلْيُراجِعْها، ثمَّ لِيَترُكْها حتى تَطهُرَ، ثمَّ تحيضَ، ثمَّ تَطهُرَ، ثمَّ إن شاء أمسَكَ بَعدُ، وإن شاء طَلَّقَ قَبلَ أن يمَسَّ؛ فتلك العِدَّةُ التي أمَرَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ أن يُطَلَّقَ لها النِّساءُ ))
وَجهُ الدَّلالةِ:قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((فتلك العِدَّةُ التي أمَرَ اللهُ أن يُطَلَّقَ لها النِّساءُ)) دلَّ على أنَّ المرادَ بالأقراءِ الأطهارُ
ثالثًا: لأنَّها عِدَّةٌ عن طَلاقٍ مُجَرَّدٍ مُباحٍ، فوجَبَ أن يُعتبَرَ عَقيبَ الطَّلاقِ، والطَّلاقُ السُّنِّيُّ يكونُ في طُهرٍ لم يُجامِعْها فيه، وكعِدَّةِ الآيِسةِ والصَّغيرةِ
رابِعًا: أنَّ القُرءَ الجَمعُ، وهو في زَمَنِ الطُّهرِ أظهَرُ