المبحث الخامس: أحكامُ الأكْلِ مِنَ الصَّيدِ، والدلالةُ عليه
المطلب الأوَّل: مَن صِيدَ لأجلِه مَن صِيدَ لأجلِه فإنَّه يحرُمُ عليه أكلُه، وهو مَذهَبُ الجُمْهورِ: المالكيَّة
، والشَّافعيَّة
، والحَنابِلَة
، واختارَه داودُ الظاهريُّ
، وبه قال بعضُ السَّلَفِ
الأدلَّة مِنَ السُّنَّة: 1- عنِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما
((عن الصَّعبَ بنَ جثَّامةَ اللَّيثيَّ أنه أهدى لرسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حمارًا وحشيًّا، وهو بالأبواءِ أو بودَّانَ، فردَّه عليه رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلمَّا رأى ما في وجْهِه، قال: إنَّا لم نَرُدَّه عليك إلَّا أنَّا حُرُمٌ ))
2- عن عبدِ اللهِ بنِ عامرِ بنِ ربيعةَ قال:
((رأيتُ عُثمانَ بنَ عفَّانَ رَضِيَ اللهُ عنه بالعَرْجِ في يومٍ صائفٍ، وهو مُحرِمٌ وقد غطَّى وجهَه بقطيفةِ أُرجوانٍ، ثم أُتيَ بلَحْمِ صيدٍ، فقال لأصحابه: كلُوا، قالوا: ألا تأكُلُ أنت؟ قال: إنِّي لستُ كهَيأَتِكم، إنمَّا صِيدَ مِن أجلي))
المطلب الثاني: إذا صاد المُحِلُّ صَيدًا وأطعَمَه المُحْرِمَ، فهل يكون حَلالًا للمُحْرِمِ؟إذا صاد المُحِلُّ صَيدًا، وأطعَمَه المُحْرِمَ دون أن يُعينَه بشيءٍ على صَيدِه، فإنَّه يَحِلُّ للمُحرمِ أكلُه، وهذا باتِّفاقِ المذاهِبِ الفِقْهيَّةِ الأربعةِ: الحَنَفيَّة
، والمالكيَّة
، والشَّافعيَّة
، والحَنابِلَة
، وحكاه الكاسانيُّ عن عامَّةِ العُلماءِ
الأدلَّة:أوَّلًا: مِنَ الكِتابِقوله تعالى:
وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا[المائدة: 96] وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّ كلمةَ: (صَيْد) مصدرٌ، أي: حُرِّم عليكم أن تصيدُوا صَيدَ البَرِّ، وليس بمعنى مَصيدٍ
ثانيًا: مِنَ السُّنَّة1- عن أبي قَتادةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((كنَّا مع النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ومِنَّا المُحْرِمُ، ومنا غيرُ المُحْرِمِ، فرأيتُ أصحابي يتراءَوْنَ شيئًا، فنظَرْتُ، فإذا حمارُ وحشٍ- يعني وَقَعَ سَوطُه- فقالوا: لا نُعينُكَ عليه بشَيءٍ؛ إنَّا مُحْرمونَ، فتَناوَلْتُه فأخَذْتُه، ثم أتيتُ الحمارَ مِن وراءِ أكَمَةٍ فعَقَرْتُه، فأتيتُ به أصحابي، فقال بعضُهم: كُلُوا، وقال بعضُهم: لا تأكُلُوا، فأتيتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو أمامَنا، فسألْتُه، فقال: كُلُوه؛ حلالٌ ))
ثالثًا: أنَّ المُحْرِمَ ليسَ له أثرٌ في هذا الصَّيدِ؛ لا دَلالة، ولا إعانة، ولا مشاركة، ولا استقلالًا، ولا صِيدَ مِن أجْلِه؛ فلم يُمنَعْ منه
المطلب الثالث: الدَّلالةُ على الصَّيدِالفرع الأوَّل: إذا دلَّ المُحْرِمُ حلالًا على صيدٍ فقَتَلهاختلف الفقهاءُ فيما إذا دلَّ المحْرِمُ حلالًا على صيدٍ فقَتَله، على قولينِ:
القول الأوّل: إذا دلَّ المُحْرِمُ حلالًا على صيدٍ فقَتَله، يلزَمُ المحرِمَ جزاؤُه، وهو مَذهَبُ الحَنَفيَّة
، والحَنابِلَة
، وبه قالَتْ طائفةٌ مِنَ السَّلَفِ
، وهو اختيارُ ابنِ تيميَّة
، والشنقيطيِّ
، وحُكيَ فيه الإجماعُ
الأدلَّة:أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأصحابِ أبي قتادةَ رَضِيَ اللهُ عنهم:
((هل منكم أحدٌ أمَرَه، أو أشارَ إليه بشيء ))
وَجهُ الدَّلالةِ:أنه علَّق الحِلَّ على عَدَمِ الإشارةِ؛ فأحرى ألَّا يَحِلَّ إذا دلَّه باللَّفْظِ، فقال هناك صيدٌ، ونحوَه
ثانيًا: أنَّه قَولُ عليٍّ وابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، ولا يُعرَفُ لهما مخالِفٌ من الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم
ثالثًا: أنَّه سببٌ يُتوصَّلُ به إلى إتلافِ الصَّيدِ؛ فتعلَّقَ به الضَّمانُ؛ فإنَّ تحريمَ الشَّيءِ تحريمٌ لأسبابِه
القول الثاني: إذا دلَّ المحْرِمُ حلالًا على صيدٍ؛ فإنَّه يكون مُسيئًا، ولا جزاءَ عليه، وهو مَذهَبُ المالكيَّة
، والشَّافعيَّة
الأدلَّة:أوَّلًا: مِنَ الكِتابِظاهِرُ قولِه تعالى:
فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [المائدة: 95] وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّه علَّقَ الجزاءَ بالقَتلِ؛ فاقتضى ألَّا يجِبَ الجزاءُ بعَدَمِ القَتلِ
ثانيًا: أنَّها نفسٌ مضمونةٌ بالجِنايةِ؛ فوجب ألَّا تُضمَنَ بالدَّلالة، كالآدميِّ
ثالثًا: أنَّ الصَّيدَ لا يُضمَنُ إلَّا بأحدِ ثلاثةِ أشياءَ: إمَّا باليدِ، أو بالمباشَرةِ، أو بالتسبُّبِ؛ فاليدُ أن يأخُذَ صيدًا فيموتَ في يَدِه فيَضمَنَ، والمباشَرةُ أن يباشِرَ قتلَه فيَضْمَنَه، والتسبُّبُ أن يحفِرَ بئرًا، فيقَعَ فيها الصَّيدُ فيضمَنَ، والدَّلالةُ ليست يدًا ولا مباشَرةً ولا سَببًا
رابعًا: أنَّ القاتَلَ انفرد بقَتْلِه باختيارِه، مع انفصالِ الدَّالِّ عنه، فصار كمَنْ دلَّ محْرِمًا أو صائِمًا على امرأةٍ فوَطِئَها؛ فإنَّه يأثمُ بالدَّلالةِ، ولا تلزَمُه كفَّارةٌ، ولا يُفطِرُ بذلك
خامسًا: ولأنَّه صَيدٌ توالى عنه جنايةٌ ودَلالةٌ، فوجب أن يُضمَنَ بالجِنايةِ ولا يُضمَنَ بالدَّلالةِ كصَيدِ المُحْرِم
سادسًا: أنَّ الصَّيدَ قد يجتمِعُ فيه حقَّانِ: حقُّ اللهِ تعالى، وهو الجزاءُ، وحقُّ الآدميِّ، وهو القيمةُ إذا كان مملوكًا، فلمَّا لم يجِبْ حقُّ الآدميِّ بالدَّلالةِ، فكذلك لا يجِبُ حَقُّ اللهِ تعالى بالدَّلالةِ
الفرع الثاني: إذا دلَّ المُحرِمُ مُحْرِمًا على صيدٍ فقَتَلَه اختلف الفقهاءُ فيما إذا دلَّ المحْرِمُ محْرِمًا على صيدٍ فقَتَله، على قولينِ:
القول الأول: إذا دلَّ المُحْرِمُ محْرِمًا على صيدٍ فقَتَلَه؛ فالدَّالُّ مُسيءٌ ولا جزاءَ عليه، وهو قَولُ المالكيَّة
، والشَّافعيَّة
، واختارَه الشنقيطيُّ
الدَّليل مِنَ الكِتابِ:ظاهِرُ قولِه تعالى:
وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [المائدة: 95] وَجهُ الدَّلالةِ:أنَّه تعالى أوجبَ الجزاءَ على القاتِلِ وحْدَه، فلا يجِبُ على غيره، ولا يُلحَقُ به غيرُه؛ لأنَّه ليس في معناه
القول الثاني: إذا دلَّ المُحْرِمُ محْرِمًا على صيدٍ فقَتَلَه فعليهما الجزاء
، وهو مذهب الحنفية
، والحنابلة
، واختاره ابن تيميَّة
الأدلة:أولًا: من السُّنَّةِقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأصحابِ أبي قتادةَ رَضِيَ اللهُ عنهم:
((هل منكم أحدٌ أمَرَه، أو أشارَ إليه بشيء ٍ))
وجه الدلالة:جعلُ ذلك بمثابةِ الإعانةِ على القَتلِ، ومعلومٌ أنَّ الإعانةَ على القَتلِ توجِبُ الجزاءَ والضَّمانَ، فكذلك الإشارةُ
ثانيًا: تعليلُ من قال إنَّ الجزاءَ يكونُ واحدًا:أنَّ الواجِبَ جزاءُ المُتلَفِ، وهو واحِدٌ؛ فيكونُ الجزاءُ واحدًا
ثالثًا: تعليلُ من قال على كلِّ واحدٍ منهما جزاءٌ كاملٌ:أنَّ كلَّ واحدٍ مِن الفِعلينِ يستقِلُّ بجزاءٍ كاملٍ إذا كان مُنفَردًا، فكذلك إذا انضَمَّ إليه غيرُه