المبحث السادس: سُنَنُ الرَّمْيِ
المطلب الأوَّل: السُّنَّة في موقِفِ الرَّامي لجَمْرةِ العَقَبةِ الأفضلُ في موقِفِ الرَّامي جَمْرةَ العَقَبةِ أن يقِفَ في بطْنِ الوادي، وتكونَ مِنًى عن يمينِه، ومكَّةُ عن يَسارِه، وهو مذهَبُ جماهيرِ أهلِ العِلمِ: الحَنَفيَّة
, والمالِكيَّة
, والصَّحيحُ عند الشَّافعيَّة
, وقولُ جماعةٍ مِنَ السَّلَفِ
, واختارَه
ابنُ تيميَّة
, و
ابنُ القَيِّم
, و
الشنقيطيُّ
, و
ابنُ باز
, و
ابنُ عُثيمين
الدَّليل مِنَ السُّنَّةِ:عن عبدِ الرحمنِ بنِ يزيدَ:
((أنَّه حجَّ مع ابنِ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، فرآه يرمي الجَمْرةَ الكُبرى بسَبْعِ حَصَياتٍ فجعل البيتَ عن يسارِه، ومِنًى عن يمينِه، ثم قال: هذا مقامُ الذي أُنْزِلَتْ عليه سورةُ البَقَرةِ))
، وفي لفظٍ:
((أنَّه انتهى إلى الجَمْرةِ الكُبرى، جَعَلَ البيتَ عن يسارِه، ومِنًى عن يمينِه، ورمى بسَبْعٍ، وقال: هكذا رمى الذي أُنْزِلَت عليه سورةُ البَقَرةِ صلى الله عليه وسلم ))
فرعٌ: رميُ جَمْرةِ العَقَبةِ مِنَ الجهاتِ الأخرىيجوزُ رَمْيُ جَمْرةِ العَقَبةِ مِن أيِّ جهةٍ كانت، وهذا مَذهَبُ الجُمْهورِ مِنَ الحَنَفيَّة
، والمالِكيَّة في الأظهَرِ
، والحَنابِلة
، ونصَّ عليه
الشافعيُّ
، وحُكِيَ الإجماعُ على ذلك
وذلك للآتي: أوَّلًا: أنَّه ثَبَتَ رميُ خَلْقٍ كثيرٍ في زَمَن الصَّحابةِ مِن أعلاها
، ولم يأمرُوهم بالإعادةِ، ولا أعلنوا بالنِّداءِ بذلك في النَّاسِ
ثانيًا: أنَّ رَمْيَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن أسفَلِها سُنَّةٌ، لا أنَّه المُتَعَيَّن، وكان وجهُ اختيارِ الرميِ مِنَ الأسفَلِ هو توقُّعُ الأذى- إذا رَمَوْا من أعلاها- لِمَن أسفَلَها؛ فإنَّه لا يخلو مِن مرورِ النَّاس، فيصيبُهم الحصى، وقد انعدَمَ هذا التخوُّفُ بإزالة الجَبَلِ الذي كان ملاصقًا للجَمْرةِ مِنَ الخَلْفِ، وصار الجميعُ يرمي في مستوًى واحدٍ
ثالثا: أنَّ ما حولها موضِعُ النُّسُكِ؛ فلو رماها من أيِّ جهةٍ أجْزَأَه
المطلب الثَّاني: أن يكون الرَّميُ بمِثْلِ حصى الخَذْفِيُستحَبُّ أن يكون الرَّميُ بمِثْلِ حَصى الخَذْفِ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّة
, والمالِكيَّة
, والشَّافعيَّة
, والحَنابِلة
، وبه قال جمهور العُلَماء مِنَ السلف والخلف
الأدِلَّة مِنَ السُّنَّةِ: 1- عَنِ
ابْنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: قال لي رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم غداةَ العَقَبةِ وهو على راحلته
((هات الْقُطْ لي فلَقَطْتُ له حَصَياتٍ هن حَصى الخَذْفِ، فلما وضعتهن في يده، قال: بأمثالَ هؤلاءِ وإيَّاكم والغُلُوَّ في الدِّينِ؛ فإنَّما أهلَكَ مَن كان قَبْلَكم الغُلُوُّ في الدِّينِ ))
2- حديثُ
جابِرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، وفيه:
((حتى أتى الجَمْرةَ التي عند الشَّجَرةِ، فرماها بسَبْعِ حَصَياتٍ- يُكَبِّرُ مع كلِّ حصاةٍ منها- مثلَ حَصى الخَذْفِ ))
المطلب الثَّالث: المُوالاةُ بين الرَّمَياتِ السَّبْعِالموالاةُ بينَ الرَّمَياتِ السَّبْعِ مُستحَبَّةٌ، وليسَتْ بشرطٍ، وهو مَذهَبُ الجُمْهورِ مِنَ الحَنَفيَّة
, والحَنابِلة
, والصَّحيحُ عند المالِكيَّة
, والشَّافعيَّة
وذلك للآتي:أوَّلًا: أنَّه نُسُكٌ لا يتعلَّقُ بالبيتِ، فلم تُشْتَرَط له الموالاةُ
ثانيًا: لأنَّ اشْتِراطَ الموالاةِ فيه مشَقَّةٌ؛ لكثرةِ الزِّحامِ عند الجَمَراتِ
المطلب الرابع: ألَّا يكونَ الحَصى ممَّا رُمِيَ بهيُفَضَّل ألَّا يكونَ الحَجَرُ ممَّا رُمِيَ به؛ فإنْ رَمَى بالحَجَرِ المُستعمَلِ أجْزَأَه, وهو مَذهَبُ الجُمْهورِ: الحَنَفيَّة
, والمالِكيَّة
, والشَّافعيَّة
, وقول للحَنابِلة
وذلك للآتي:أوَّلًا: لأنَّه ليس هناك دليلٌ على أنَّ الحصاةَ التي رُمِيَ بها لا يُجْزِئُ الرَّميُ بها، ولا دليلَ يَمنَعُ مِنَ الرَّميِ بها
ثانيًا: لأنَّ العِبرةَ هي الرميُ بحصاةٍ، وقد وُجِدَ، ويصدُقُ اسْمُ الرَّميِ عليها
ثالثًا: قياسًا على الثَّوبِ في سَتْرِ العورةِ؛ فإنَّه يجوز أن يُصَلِّيَ في الثوبِ الواحِدِ صلواتٍ
المطلب الخامس: طهارةُ الحَصَياتِيُستحَبُّ أن يرمِيَ بحصًى طاهرةٍ, وهو مَذهَبُ الجُمْهورِ: الحَنَفيَّة
, والمالِكيَّة
, والشَّافعيَّة
, ووجه عند الحَنابِلة
وذلك للآتي:أوَّلًا: لِصِدْقِ اسْمِ الرَّميِ على الرَّميِ بالحَجَرِ النَّجِسِ
ثانيًا: لعَدَمِ النَّصِّ على اشتراطِ طَهارةِ الحَصَى
ثالثًا: لِكَيلا يباشِرَ النَّجاسةَ بِيَدِه
مسألةٌ: حُكْمُ غَسْلِ حَصى الرَّمْيِلا يُستحَبُّ غَسلُ الحَصى إلَّا إذا رأى فيها نجاسةً ظاهرةً، ولم يَجِدْ غيرَها، فتُغْسَلُ النَّجاسةُ؛ لئلَّا تتنجَّسَ اليدُ أو الثيابُ, وهو المذهَبُ عند المالِكيَّة
, والصَّحيحُ عند الحَنابِلة
, وهو قولُ جماعةٍ مِن أهلِ العِلم
, وقولُ ابن المُنْذِر
, واختاره
الشنقيطيُّ
, و
ابنُ بازٍ
, و
ابنُ عُثيمين
, و
الألبانيُّ
وذلك للآتي:أوَّلًا: لأنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يَرِدْ عنه أنَّه غَسَل الحَصى، ولا أمَرَ بغَسْلِهِنَّ
ثانيًا: لأنَّه لم يُنقَلْ غَسْلُه عن الصَّحابةِ رِضوانُ اللهِ عليهم
ثالثًا: أنَّه لا يوجَدُ معنًى يقتضي غَسْلَه
المطلب السادس: التكبيرُ مع كُلِّ حصاةٍيُستحَبُّ أن يكَبِّرَ مع كلِّ حصاة, وذلك باتفاق المذاهِبِ الفقهية الأربعةِ: الحَنَفيَّة
, والمالِكيَّة
, والشَّافعيَّة
, والحَنابِلة
الأدِلَّة مِنَ السُّنَّةِ: 1- حديثُ
جابِرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، وفيه:
((حتى أتى الجَمْرةَ التي عند الشَّجَرةِ، فرماها بسَبْعِ حَصَياتٍ- يُكَبِّرُ مع كلِّ حصاةٍ منها- مثلَ حَصَى الخَذْفِ، رَمَى مِن بطْنِ الوادي، ثمَّ انصَرَفَ إلى المَنْحَر ))
2- عن عبدِ الرَّحمنِ بنِ يزيدَ:
((أنَّه كان مع ابنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه حين رمى جَمرةَ العَقَبةِ فاستبطَنَ الواديَ، حتَّى إذا حاذى بالشَّجَرةِ اعتَرَضَها فرمى بسبعِ حَصَياتٍ، يكَبِّرُ مع كلِّ حَصاةٍ، ثمَّ قال: مِن هاهنا- والذي لا إلهَ غَيرُه- قام الذي أُنزِلَت عليه سورةُ البَقَرةِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ))
3- مَا رَوَتْه
عائشةُ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّها قالت:
((أفاض رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن آخر يَومِه حين صلَّى الظُّهْرَ, ثم رجَعَ إلى مِنًى، فمكث بها لياليَ أيَّامِ التَّشريقِ يَرمي الجمرة إذا زالتِ الشَّمسُ, كلَّ جَمْرةٍ بِسَبْعِ حَصَياتٍ, يُكَبِّرُ مع كلِّ حصاةٍ, ويَقِفُ عند الأُولى والثَّانيَة، فيُطيلُ القيام ويتضَرَّعُ، ويرمي الثَّالثة ولا يَقِفُ عندها ))
مسألةٌ: حكمُ تَرْكِ التَّكبيرِ عند رَمْيِ الجِمارِ مَن تَرَكَ التَّكبيرَ عند رَمْيِ الجِمارِ؛ فليس عليه شيءٌ.
الدَّليلُ مِنَ الإجماعِ:نقلَ الإجماعَ على ذلك القاضي عِياضٌ
, و
ابنُ حَجَرٍ
المطلب السابع: قَطْعُ التَّلبيةِ مع أوَّلِ حَصاةٍ يَرْمي بها جَمْرةَ العَقَبةِ يَومَ النَّحرِيُستحَبُّ أن يقطَعَ التَّلبيةَ عند أوَّلِ حَصاةٍ يرمي بها جَمْرةَ العَقَبةِ، وهو مَذهَبُ الجُمْهورِ مِنَ الحَنَفيَّة
, والشَّافعيَّة
, والحَنابِلة
، وقولُ جماعةٍ مِنَ السَّلَفِ
الأدِلَّة:أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِعن الفَضلِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما:
((أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أردف الفضل، فأخبر الفضل أنه لم يَزَلْ يُلَبِّي حتى رمى الجَمْرةَ ))
وَجْهُ الدَّلالةِ:أنَّ الفَضلَ بن عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما كان رَديفَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومَئذٍ، وهو أعلَمُ بحالِه مِن غَيرِه
ثانيًا: لأنَّه يتحَلَّلُ به، فشُرِعَ قَطْعُها في ابتدائِه؛ كالمعتَمِرِ يقطَعُها بالشُّروعِ في الطَّوافِ
المطلب الثامن: الدُّعاءُ الطَّويلُ عَقِبَ رَمْيِ الجَمْرةِ الصُّغرى والوُسْطىيُستحَبُّ الوقوفُ للدُّعاء ِإثرَ كُلِّ رَمْيٍ بعدَه رَمْيٌ آخَرُ، فيقِفُ للدُّعاءِ بعد رمْيِ الجَمْرة الصُّغرى والوُسطى وقوفًا طويلًا؛ وهذا الدُّعاءُ مُستحَبٌّ باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّة
, والمالِكيَّة
, والشَّافعيَّة
, والحَنابِلة
الدَّليل مِنَ السُّنَّةِ:عَنِ
ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما:
((أنَّه كان يرمي الجَمْرةَ الدُّنيا بسَبْعِ حَصَياتٍ، يُكَبِّرُ على إِثْرِ كلِّ حَصاةٍ، ثم يتقَدَّمُ حتى يُسْهِلَ، فيقومَ مُستقْبِلَ القِبلةِ، فيقومُ طويلًا، ويدعو ويَرفَعُ يديه، ثمَّ يرمي الوُسطى، ثم يأخُذُ ذاتَ الشِّمالِ فيَسْتَهِلُ، ويقومُ مستقبِلَ القبلةِ، فيقومُ طويلًا، ويدعو ويَرفَعُ يديه، ويقومُ طويلًا، ثم يرمي جَمْرةَ ذاتِ العَقَبةِ مِن بطْنِ الوادي، ولا يقِفُ عندها، ثمَّ ينصَرِفُ، فيقول: هكذا رأيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يفعَلُه ))