الموسوعة الفقهية

المبحث الثَّالِث: القِرانُ في الحَجِّ


المَطْلَب الأوَّل: تعريفُ القِرانِ
القِرانُ: هو أن يُحْرِمَ بالعُمْرَةِ والحَجِّ معًا في نُسُكٍ واحدٍ، فيقول: لبَّيْكَ اللهم عُمْرَةً في حَجَّةٍ ((مجلة البحوث الإسلامية)) (59/208).
المَطْلَب الثَّاني: إطلاقُ التمَتُّعِ على القِرانِ
يُطلَقُ التمتُّعُ على القِرانِ في عُرْفِ السَّلَفِ؛ قرَّرَ ذلك ابنُ عَبْدِ البَرِّ قال ابنُ عبدِ البرِّ: (إنَّما جُعِلَ القِرانُ من باب التمتُّعِ؛ لأنَّ القارِنَ متمَتِّعٌ بترك النَّصَبِ في السَّفَرِ إلى العُمْرَة مرَّةً وإلى الحَجِّ أخرى وتمتَّع بِجَمْعِهما؛ لم يُحْرِمْ لكلِّ واحدةٍ من ميقاته وضَمَّ إلى الحَجِّ، فدخل تحت قولِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ **البقرة: 196**، وهذا وجهٌ مِنَ التمتُّعِ لا خلاف بين العلماء في جوازه). ((التمهيد)) (8/354). ، والنَّوَوِيُّ قال النووي: (كذلك يتأوَّلُ قول من قال: كان متمتعًا؛ أي: تمتَّعَ بفِعْلِ العُمْرَةِ في أشهُرِ الحَجِّ وفِعْلِها مع الحَجِّ؛ لأنَّ لَفْظَ التمتُّعِ يُطْلَق على معانٍ، فانتظمت الأحاديثُ واتَّفقت) ((شرح النووي على مسلم)) (8/137). ، وابنُ تيميَّة قال ابنُ تيميَّة: (الذين قالوا تمتَّع- أي الرسول صلَّى الله عليه وسَلَّم- لم تَزَلْ قلوبُهم على غيرِ القِران، فإنَّ القِرانَ كان عندهم داخلًا في مسمَّى التمتُّع بالعُمْرَة إلى الحَجِّ؛ ولهذا وجب عند الأئمَّة على القارنِ الهَدْيُ؛ لقوله: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ **البقرة: 196**، وذلك أنَّ مقصودَ حقيقة التمتُّعِ أن يأتيَ بالعُمْرَةِ في أشهر الحَجِّ، ويحُجَّ مِن عامِه، فيَتَرَفَّه بسقوطِ أحَدِ السَّفَرين، قد أحَلَّ مِن عُمْرَتِه، ثم أحرَمَ بالحَجِّ، أو أحرم بالحَجِّ مع العُمْرَةِ، أو أدخل الحَجَّ على العُمْرَةِ، فأتى بالعُمْرَة والحَجِّ جميعًا في أشْهُرِ الحَجِّ مِن غَيْرِ سَفَرٍ بينهما، فيَتَرَفَّه بسقوط أحد السَّفَرين، فهذا كلُّه داخِلٌ في مسمَّى التمتُّع) ((مجموع الفتاوى)) (26/81)، ((مجلة البحوث الإسلامية)) (59/209). ، وابنُ حَجَرٍ قال ابنُ حجر: (حديثُ ابنِ عمرَ المذكورُ ناطِقٌ بأنَّه صلَّى الله عليه وسَلَّم كان قارنًا؛ فإنَّه مع قوله فيه: ((تمتَّع رسول اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم)) وَصَفَ فِعْلَ القِرانِ؛ حيث قال: ((بدأ فأهَلَّ بالعُمْرَةِ ثم أهَلَّ بالحَجِّ))، وهذا من صور القِرانِ، وغايته أنَّه سماه تمتُّعًا لأنَّ الإحرامَ عنده بالعُمْرَة في أشهُرِ الحَجِّ كيف كان يسمَّى تمتُّعًا) ((فتح الباري)) (3/495). ، والكَمالُ ابنُ الهمامِ قال الكمال ابن الهمام: (التمتُّعُ بلغة القرآن أعمُّ مِن القِران كما ذكره غير واحدٍ، وإذا كان أعمَّ منه احتمَلَ أن يراد به الفَرْدُ المسمَّى بالقران في الاصطلاحِ الحادث، وهو مُدَّعانا، وأن يرادَ به الفَرْدُ المخصوصُ باسم التمتُّع في ذلك الاصطلاح، فعلينا أن ننظر أوَّلًا في أنَّه أعمُّ في عُرْف الصحابة أو لا، وثانيًا: في ترجيح أيِّ الفَرْدَينِ بالدليل، والأَوَّل يُبَين في ضِمْن الترجيحِ، وثَمَّ دلالاتٌ أُخَرُ على الترجيحِ مُجَرَّدة عن بيانِ عُمومِه عُرفًا) ((فتح القدير)) (2/520، 521). ، والشِّنْقيطيُّ قال الشِّنْقيطيُّ: (اعلم أنَّ الأحاديثَ الواردة بأنَّه كان مُفْردًا، والواردة بأنَّه كان قارنًا، والواردة بأنَّه كان متمَتِّعًا لا يمكن الجمعُ البتَّةَ بينها، إلَّا الواردة منها بالتمَتُّع والواردة بالقِران، فالجمع بينهما واضِحٌ; لأنَّ الصَّحابة كانوا يُطْلِقون اسمَ التمتُّع على القِرانِ، كما هو معروفٌ عنهم، ولا يُمكِنُ النزاع فيه، مع أنَّ أَمْرَه صلَّى الله عليه وسَلَّم أصحابَه بالتمتُّع قد يُطلَق عليه أنَّه تمتُّع; لأنَّ أمْرَه بالشيءِ كَفِعْلِه إيَّاه) ((أضواء البيان)) (4/371). ، وغيرُهم ((تفسير القرطبي)) (2/388)، ((شرح النووي على مسلم)) (8/169)، ((فتح الباري)) لابن حجر(3/423)، ((مجلة البحوث الإسلامية)) (59/208).
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتاب
قال الله عَزَّ وجَلَّ: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة: 196]
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ القارِنَ متَمَتِّعٌ بجَمْعِ النُّسُكَينِ في نُسُكٍ واحدٍ، ومتمَتِّعٌ بسُقوطِ أحَدِ السَّفَرينِ عنه، فلم يُحْرِمْ لكلِّ نُسُكٍ مِن ميقاتِه، فيَدْخل بذلك في عمومِ الآيَةِ في مُسَمَّى التمتُّعِ ((التمهيد)) لابن عَبْدِ البَرِّ (8/354)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (26/81).
ثانيًا: إطلاقُ الصَّحابَةِ رَضِيَ اللهُ عنهم التمَتُّعَ على نُسُكِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم، وإنَّما كان نُسُكُه القِرانَ ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (2/521). :
1- عن عِمْرانَ بنِ حُصَينٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((تمتَّعَ نَبِيُّ الله صلَّى الله عليه وسَلَّم وتمتَّعْنا معه )) رواه مسلم (1226).
2- عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((تمتَّعَ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم في حَجَّةِ الوداعِ بالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ )) رواه البخاري (1691)، ومسلم (1227).
3- عن سعيدِ بنِ المسيِّب قال: ((اختلفَ عليٌّ وعثمانُ رَضِيَ اللهُ عنهما وهما بعُسْفانَ في المُتعَة، فقال عليٌّ: ما تريدُ إلَّا أن تنهى عن أمْرٍ فَعَلَه النبي صلَّى الله عليه وسَلَّم، فلمَّا رأى ذلك عليٌّ أهَلَّ بهما جميعًا )) رواه البخاري (1569)، ومسلم (1223).
ثالثًا: أنَّ كِلا النُّسُكَينِ فيه تمتُّعٌ لغةً; لأنَّ التمتُّعَ مِن المتاعِ أو المُتْعَة، وهو الانتفاعُ أو النَّفْعُ، وكلٌّ مِنَ القارِنِ والمتمَتِّع، انتفَعَ بإسقاطِ أحَدِ السَّفَرينِ، وانتَفَعَ القارِنُ باندراجِ أعمالِ العُمْرَةِ في الحَجِّ ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/127).
المَطْلَب الثَّالِث: صُوَرُ القِرانِ:
للقِرانِ ثَلاثُ صُوَرٍ:
الصورةُ الأولى: صورةُ القِرانِ الأَصْلِيَّةُ:
أن يُحْرِمَ بالعُمْرَةِ والحَجِّ معًا، فيَجْمَع بينهما في إحرامِه، فيقول: لبَّيْكَ عُمْرَةً وحجًّا، أو لبَّيْك حجًّا وعُمْرَةً الأفضل أن يُقَدِّمَ العُمْرَةَ في التَّلْبِيَةِ؛ فيقول: (لبَّيْكَ عُمْرَةً وحجًّا)؛ لأنَّ تلبيةَ النبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم هكذا، ولأنَّها سابقةٌ على الحَجِّ. ((المجموع)) للنووي (7/171).
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم جاءه جبريلُ- عليه السلام- وقال: ((صَلِّ في هذا الوادي المُبارَكِ، وقل: عُمْرَةً في حَجَّةٍ، أو قال: عُمْرَةً وحَجَّةً )) رواه البخاري (1534).
2- عن عائشةَ- رَضِيَ اللهُ عنها- قالت: ((فمِنَّا مَن أهَلَّ بعُمْرَةٍ، ومِنَّا مَن أهَلَّ بحَجة، ومِنَّا مَن أهَلَّ بحَجٍّ وعُمْرَةٍ )) رواه البخاري (4408) واللفظ له، ومسلم (1211).
ثانيًا: مِنَ الإجماعِ
نَقَلَ الإجْماعَ على جوازِ هذه الصُّورَةِ ابنُ عَبْدِ البَرِّ قال ابنُ عبدِ البرِّ: (...والوجه الثَّاني من وجوه التمتُّعِ بالعُمْرَة إلى الحَجِّ هو: أن يَجْمَعَ الرجُلُ بين العُمْرَةِ والحَجِّ فيُهِلَّ بهما جميعًا في أشهُرِ الحَجِّ... هذا وجْهٌ من التمتُّعِ لا خلافَ بين العُلماءِ في جوازِه) ((التمهيد)) (8/354). والمُباركفوريُّ قال المباركفوري: (الإهلالُ بالحَجِّ والعُمْرَةِ معًا، وهذا متَّفَقٌ على جوازِه) ((مرعاة المفاتيح)) (8/459)، ويُنْظَر: ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قُدامة (3/239)، ويُنْظَر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (4/38)، ((شرح السنة)) للبغوي (7/74)، وتُنظَرُ الإجماعاتُ المتقَدِّمة عن جوازِ القِرانِ.
الصُّورة الثَّانيةُ: إدخالُ الحَجِّ على العُمْرَةِ:
أن يُحْرِمَ بالعُمْرَةِ، ثم يُدخِلَ عليها الحَجَّ.
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((خَرَجْنا مع النبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم لا نذْكُرُ إلَّا الحَجَّ، فلمَّا جِئْنَا سَرِفَ طَمِثْتُ، فدخل عليَّ النبيُّ صلَّى الله عليه وسَلَّم وأنا أبكي، فقال: ما يُبْكِيكِ؟ قُلْتُ: لوَدِدْتُ- واللهِ- أنِّي لم أحُجَّ العامَ. قال: لعَلَّكِ نَفِسْتِ؟ قُلْتُ: نعم. قال: فإنَّ ذلكِ شَيءٌ كَتَبَه اللهُ على بناتِ آدَمَ، فافْعَلِي ما يفْعَلُ الحاجُّ، غيرَ أن لا تَطُوفي بالبَيْتِ حتَّى تَطْهُري )) رواه البخاري (305) واللفظ له، ومسلم (1211).
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم جوَّز لعائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها إدخالَ الحَجِّ على العُمْرَةِ ((زاد المعاد)) لابن القَيِّمِ (2/163).
2- عن نافعٍ: ((أنَّ ابنَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما أراد الحَجَّ عام نزَلَ الحَجَّاجُ بابنِ الزُّبيرِ، فقيل له: إنَّ النَّاسَ كائِنٌ بينهم قتالٌ، وإنَّا نخاف أن يَصُدُّوك، فقال: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: 21] إذًا أصنَعَ كما صَنَعَ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم، إنِّي أُشْهِدُكم أنِّي قد أوجَبْتُ عُمْرَةً. ثم خرج حتى إذا كان بظَاهِرِ البَيداءِ، قال: ما شأنُ الحَجِّ والعُمْرَةِ إلا واحِدٌ، أُشْهِدُكم أنِّي قد أوجَبْتُ حجًّا مع عُمْرَتي. وأَهْدَى هديًا اشتراه بقُدَيْدٍ ولم يَزِدْ على ذلك، فلم يَنْحَرْ، ولم يَحِلَّ من شيءٍ حَرُمَ منه، ولم يَحْلِقْ ولم يُقَصِّرْ حتى كان يومُ النَّحْرِ، فنَحَرَ وحَلَقَ، ورأى أنْ قد قَضى طوافَ الحَجِّ والعُمْرَةِ بطوافِه الأَوَّل. وقال ابنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما: كذلك فَعَلَ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم )) رواه البخاري (1640) واللفظ له، ومسلم (1230).
ثانيًا: مِنَ الإجماعِ
نَقَلَ الإجْماعَ على جوازِ إدخالِ الحَجِّ على العُمْرَة قال ابنُ عبدِ البرِّ: (قولُ أبي ثورٍ لا يُدْخِلُ إحرامًا على إحرامٍ كما لا تَدْخُل صلاةٌ على صلاةٍ؛ ينفي دخولَ الحَجِّ على العُمْرَة، وهذا شذوذٌ، وفِعْلُ ابنِ عُمَرَ في إدخاله الحَجَّ على العُمْرَة ومعه على ذلك جمهور العلماء خيرٌ من قولِ أبي ثورٍ الذي لا أصْلَ له إلا القياسُ الفاسِدُ في هذا الموضع؛ واللهُ المستعان) ((التمهيد)) (15/219). وقال النووي: (اتفقَ جمهورُ العلماء علي جوازِ إدخالِ الحَجِّ على العُمْرَةِ، وشذَّ بعض الناس فمَنَعَه، وقال: لا يدخل إحرامٌ على إحرام، كما لا يدخُلُ صلاةٌ على صلاة) ((المجموع)) (7/162)، ويُنْظَر: ((فتح الباري)) لابن حجر (4/7). : ابنُ المُنْذِر قال ابنُ المُنْذِر: (أجمع كلُّ من نحفظ عنه من أَهْل العِلْم، أنَّ لِمَن أهَلَّ بعُمْرَةٍ أن يُدْخِلَ عليها الحَجَّ، ما لم يفتَتِحِ الطَّوافَ بالبَيْتِ) ((الإشراف)) (3/ 300). ، وابنُ عَبْدِ البَرِّ قال ابنُ عبدِ البرِّ: (في هذا الباب أيضًا من الفِقْه... إدخالُ الحَجِّ على العُمْرَة، وهو شيءٌ لا خلاف فيه بين العلماء ما لم يَطُفِ المُعْتَمِرُ بالبيت، أو يأخُذَ في الطَّواف) ((التمهيد)) (8/229). وقال أيضًا: (العلماءُ مُجْمِعون على أنَّه إذا أَدْخَلَ الحَجَّ على العُمْرَة في أشهُرِ الحَجِّ على ما وَصَفْنا قبل الطَّوافِ بالبيت؛ أنَّه جائزٌ له ذلك، ويكون قارنًا بذلك يَلْزَمُه الذي أنشأ الحَجَّ والعُمْرَة معًا) ((التمهيد)) (15/216). ، وابنُ قُدامة قال ابنُ قُدامة: (إدخالُ الحَجِّ على العُمْرَة جائزٌ بالإجماع من غيرِ خَشْيَة الفواتِ، فمع خَشْيَةِ الفواتِ أَوْلى) ((المغني)) (3/421). ، وابنُ أخيه ابنُ أبي عُمَر قال شمس الدين ابن قُدامة: (إذا أدخل الحَجَّ على العُمْرَة قبل طوافها من غير خوفِ الفَواتِ جاز وكان قارنًا بغيرِ خلافٍ، وقد فعل ذلك ابنُ عمر، ورواه عَنِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم) ((الشرح الكبير)) (3/239). ، والقُرطبيُّ قال القرطبي: (أجمع أَهْلُ العِلْم على أنَّ لِمَن أهلَّ بعُمْرَةٍ في أشهر الحَجِّ أن يُدْخِلَ عليها الحَجَّ ما لم يفتَتِحِ الطواف بالبيت، ويكون قارنًا بذلك، يلزَمُه ما يلزم القارنَ الذي أنشأ الحَجَّ والعُمْرَة معًا) ((تفسير القرطبي)) (2/398). ، والرَّمليُّ قال الرمليُّ: (وإن أحرَمَ بعُمْرَةٍ صحيحة في أشهر الحَجِّ ثم أحْرَمَ بحَجٍّ قبل الشُّروعِ في الطَّوافِ كان قارنًا إجماعًا) ((نهاية المحتاج)) (3/323).
مَسْألةٌ:
يُشْتَرَطُ في إدخالِ الحَجِّ على العُمْرَة أن يكون قبل الطَّوافِ، وهو مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّة ((المجموع)) للنووي (7/172)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (3/323). ، والحَنابِلَة ((المبدع شرح المقنع)) لابن مفلح (3/59)، ((الإنصاف)) للمرداوي (3/310). ، وهو قَوْلُ أشهَبَ من المالِكِيَّةِ ((الكافي في فقه أهل المدينة)) (1/384)، ((التمهيد)) لابن عَبْدِ البَرِّ (15/217). ، واختارَه ابنُ عبدِ البَرِّ قال ابنُ عبدِ البرِّ: (العلماءُ مُجْمِعون على أنَّه إذا أدخل الحَجَّ على العُمْرَة في أشهُرِ الحَجِّ على ما وصفنا قبل الطَّواف بالبيت أنَّه جائزٌ له ذلك ويكون قارنًا بذلك؛ يلزمه الذي أنشأ الحَجَّ والعُمْرَة معًا، وقالت طائفة من أصحاب مالك: إنَّ له أن يُدخِلَ الحَجَّ على العُمْرَة وإن كان قد طاف ما لم يركع ركعتَيِ الطَّوافِ، وقال بعضهم: ذلك له بَعَْ الطَّوافِ ما لم يُكْمِلِ السَّعيَ بين الصَّفا والمروة، وهذا كلُّه شذوذٌ عند أَهْل العِلْم، وقال أشهب: من طاف لعُمْرَتِه ولو شوطًا واحدًا لم يكن له إدخالُ الحَجِّ عليها، وهذا هو الصَّوابُ إن شاء الله) ((التمهيد)) (15/216، 217). ؛ وذلك لأنَّه إذا طاف فيكون حينئذٍ قد اشتغَلَ بمعظَمِ أعمالِ العُمْرَةِ، وشُرِعَ في سبَبِ التحَلُّلِ، ففات بذلك إدخالُ الحَجِّ على العُمْرَةِ ((المجموع)) للنووي (7/172)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (3/323)، ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قُدامة (3/240)، ((الشرح الممتع)) لابن عُثيمين (7/100).
 الصورة الثَّالِثة:إدخالُ العُمْرَةِ على الحَجِّ
اختلف أَهْلُ العِلْم في حُكْمِ إدخالِ العُمْرَةِ على الحَجِّ، وذلك بأنْ يُحْرِمَ بالحَجِّ مُفْرِدًا، ثمَّ يُدْخِلَ عليها العُمْرَةَ ليكون قارنًا، وذلك على قولينِ:
القول الأوَّل: لا يصِحُّ إدخالُ العُمْرَةِ على الحَجِّ، فإن فعل لم يَلْزَمْه، ويتمادى على حَجِّه مفرِدًا، وهذا مَذْهَبُ الجُمْهورِ: المالِكِيَّة ((التاج والإكليل)) للمواق (3/ 49)، ويُنظر: ((التمهيد)) لابن عَبْدِ البَرِّ (8/230)، ((الذخيرة)) للقرافي (3/289). ، والشَّافِعِيَّة- في الأصَحِّ ((المجموع)) للنووي (7/173)، ((نهاية المحتاج)) (3/323). - والحَنابِلَة ((المغني)) لابن قُدامة (3/423)، ((الإنصاف)) للمرداوي (3/310). ، وبه قالَتْ طائِفةٌ مِنَ السَّلَف روي ذلك عن عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، وبه قال مالك وأبو ثور، وإسحاق. ((الإشراف)) (3/300)، ((التمهيد)) لابن عَبْدِ البَرِّ (8/230)، ((المغني)) لابن قُدامة (3/423).
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
 عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ الأنصاريِّ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّه حَجَّ مع رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم عام ساقَ الهَدْيَ معه، وقد أهلُّوا بالحَجِّ مُفْرَدًا، فقال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم: أحِلُّوا من إحرامِكم، فطوفوا بالبَيتِ وبَينَ الصَّفا والمروةِ، وقَصِّروا، وأقيموا حَلالًا، حتى إذا كان يومُ التَّرويةِ فأَهِلُّوا بالحَجِّ، واجعلوا التي قَدَّمْتُم بها مُتعةً )) رواه البخاري (1568)، ومسلم (1216) واللفظ له.
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ أَمْرَهم بفَسْخِ الحَجِّ إلى عُمْرَة إنَّما كان بغَرَضِ إعلامِهم بجوازِ العُمْرَةِ في أشهُرِ الحَجِّ؛ لإبطالِ ما كانوا عليه في الجاهليَّة مِن عَدَمِ الجوازِ، فلو كان يجوزُ إدخالُ العُمْرَةِ على الحَجِّ لأَمَرَهم بذلك، ولَمَا احتاجَ أن يأمُرَهم بفَسْخِ الحَجِّ ((التمهيد)) لابن عَبْدِ البَرِّ (23/365).
ثانيًا: أنَّ أفعالَ العُمْرَةِ من الطَّوافِ والسعيِ والحَلْقِ، استُحِقَّتْ بالإحرامِ بالحَجِّ، فلم يبقَ في إدخالِ الإحرامِ بها فائدة، بخلاف العكس من إدخال الحَجِّ على العُمْرَة، فإنَّه يستفيدُ به الوقوفَ والرَّميَ والمَبِيتَ ((نهاية المحتاج)) للرملي (3/323)، ((مرعاة المفاتيح)) للمباركفوري (8/459).
ثالثًا: أنَّ التداخُلَ على خلافِ الأصلِ، ولا يُصارُ إليه إلَّا بدليلٍ، لاسيما أنَّ فيه إدخالَ الأصغرِ على الأكبرِ، وهو لا يصِحُّ ((نهاية المحتاج)) للرملي (3/323)، ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قُدامة (3/240).
رابعًا: أنَّ العُمْرَة أضعَفُ من الحَجِّ، فلم يَجُزْ أن تُزاحِمَ ما هو أقوى منها بالدُّخولِ عليها، وجاز للحَجِّ مُزاحَمَتُها؛ لأنَّه أقوى منها ((الحاوي الكبير)) للماوردي (4/38).
القول الثاني: يجوزُ إدخالُ العُمْرَةِ على الحَجِّ، ويكون قارنًا، وهذا مَذْهَبُ الحَنَفيَّةِ يصِحُّ عند الحَنَفيَّة إدخالُ العُمْرَة على الحَجِّ، ويكون قارنًا بذلك، لكنَّه أخطأ السنَّة، فالسُّنَّة هي الإحرامُ بهما معًا، أو إدخالُ الحَجِّ على العُمْرَة. ((العناية شرح الهداية)) للبابرتي (3/120)، ويُنظر: ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (3/120). ، وهو قولُ الشَّافعيِّ في القديمُ ((الحاوي الكبير)) للماوردي (4/38)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (3/324). ، واللَّخمي من المالِكِيَّة ((الذخيرة)) للقرافي (3/289). ، وبه قال عطاءٌ، والأوزاعيُّ ((التمهيد)) لابن عَبْدِ البَرِّ (15/218)، ((مجلة البحوث الإسلامية)) (72/274). ، وقوَّاه ابنُ عُثيمين قال ابنُ عُثيمين: (هذا القول دليله قوي) ((الشرح الممتع)) (7/87).
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها: ((أهَلَّ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم بالحَجِّ، ثم جاءه جبريلُ عليه السَّلامُ، وقال: صلِّ في هذا الوادي المُبارَك، وقل: عُمْرَةً في حجَّةٍ، أو عُمْرَةً وحَجَّةً )) رواه البخاري (1534).
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم أُمِرَ أن يُدخِلَ العُمْرَةَ على الحَجِّ، وهذا يدلُّ على جوازِ إدخالِ العُمْرَةِ على الحَجِّ ((مرعاة المفاتيح)) للمباركفوري (8/460).
2- عن جابرٍ رَضِيَ الله عنه قال: ((لو أنِّي استقبلْتُ من أمري ما استدبَرْتُ، لم أسُقِ الهديَ، وجعلتُها عمرةً. فمن كان منكم ليس معه هَدْيٌ فليُحِلَّ. وليَجْعلْها عُمرةً. فقام سراقةُ بنُ مالكِ بنِ جُعشمٍ، فقال : يا رسولَ اللهِ ! ألِعَامِنا هذا أم لأبدٍ؟ فشبَّك رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أصابعَه واحدةً في الأخرى. وقال دخلتِ العمرةُ في الحجِّ مرتَين، لا بل لأبدِ أبدٍ )) رواه البخاري (1785)، ومسلم (1218) واللفظ له.
3- عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلم: ((هذه عمرةٌ استمتَعْنا بها، فمَن لم يكن عنده الهَدْيُ، فليُحِلَّ الحِلَّ كُلَّه؛ فإنَّ العُمرةَ قد دخَلَت في الحَجِّ إلى يومِ القيامةِ )) أخرجه مسلم (1241).
ثالثًا: أنَّه يستفيدُ بذلك أن يأتيَ بنُسُكَينِ بَدَلَ نُسُكٍ واحدٍ ((الشرح الممتع)) لابن عُثيمين (7/87).
رابعًا: قياسًا على إدخالِ الحَجِّ على العُمْرَةِ؛ لأنَّه أحَدُ النُّسُكينِ ((مرعاة المفاتيح)) للمباركفوري (8/ 460).
المَطْلَب الرَّابِع: أعمالُ القارِن
الفرع الأوَّل: أعمالُ القارِن
عَمَلُ القارِنِ والمُفْرِدِ واحِدٌ؛ فالقارِنُ يكفيه إحرامٌ واحِدٌ، وطوافٌ واحِدٌ، وسعيٌ واحِدٌ، ولا يَحِلُّ إلَّا يومَ النَّحْرِ، ويقتَصِرُ على أفعالِ الحَجِّ، وتندرج أفعالُ العُمْرَةِ كلُّها في أفعالِ الحَجِّ، وهذا مَذْهَبُ الجُمْهورِ من: المالِكِيَّة ((الكافي في فقه أهل المدينة)) لابن عَبْدِ البَرِّ (1/385)، ويُنظر: ((الذخيرة)) للقرافي (3/273). ، والشَّافِعِيَّة ((المجموع)) للنووي (7/171). ((نهاية المحتاج)) للرملي (3/323). ، والحَنابِلَة ((الفروع)) لابن مفلح (5/344)، ((المبدع شرح المقنع)) لابن مفلح (3/60). ، وبه قال أكثَرُ السَّلَفِ منهم: ابن عمر رَضِيَ اللهُ عنهما، وجابر بن عبد الله، وعائشة، وعطاء، وطاووس، والحسن، ومجاهد، والماجشون, وإسحاق، وأبو ثور، وابن المُنْذِر وداود. ((التمهيد)) لابن عَبْدِ البَرِّ (8/230)، ((تفسير القرطبي)) (2/391)، ((المجموع)) للنووي (8/61)، ((حاشية ابن القَيِّمِ)) (5/347).
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ
1- عن جابرِ بنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((لم يَطُفِ النبيُّ صلَّى الله عليه وسَلَّم ولا أصحابُه بين الصَّفا والمروةِ إلَّا طَوافًا واحِدًا )) رواه مسلم (1215).
2- عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: ((وأمَّا الذين جمَعوا الحَجّ والعُمْرَة فإنَّما طافوا طوافًا واحدًا )) رواه البخاري (1556) واللفظ له، ومسلم (1211).
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ الحديثَ نَصٌّ صريحٌ على اكتفاءِ القارِنِ بطوافٍ واحدٍ لحَجِّه وعُمْرَتِه ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/378).
3- عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها: أنَّها أهَلَّت بعُمْرَةٍ، فقَدِمَتْ ولم تَطُفْ بالبيتِ حتى حاضت، فنَسَكَت المناسِكَ كُلَّها، وقد أهلَّتْ بالحَجِّ، فقال لها النبيُّ صلَّى الله عليه وسَلَّم: ((يَسَعُكِ طوافُكِ لحَجِّكِ وعُمْرَتِكِ )) رواه مسلم (1211).
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ هذا الحديثَ الصَّحيحَ صريحٌ في أنَّ القارِنَ يكفيه لحَجِّه وعُمْرَتِه طوافٌ واحِدٌ وسعيٌ واحدٌ ((فتح الباري)) لابن حجر (3/495)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/375).
4- عن جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، عَنِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم أنَّه قال: ((دخَلَتِ العُمْرَةُ في الحَجِّ؛ مَرَّتينِ )) رواه البخاري (1785)، ومسلم (1218) واللفظ له.
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ تصريحَه صلَّى الله عليه وسَلَّم بدُخولِها فيه؛ يدلُّ على دخولِ أعمالِها في أعمالِه حالةَ القِرانِ ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/378)، ((مرعاة المفاتيح)) للمباركفوري (9/67).
5- عن نافعٍ: ((أنَّ عبدَ اللهِ بنَ عبدِ الله، وسالمَ بنَ عبدِ الله، كلَّمَا عبدَ اللهِ حين نزل الحجَّاجُ لقتالِ ابنِ الزُّبيرِ، قالا: لا يضُرُّك ألَّا تحُجَّ العامَ؛ فإنَّا نخشى أن يكونَ بين النَّاسِ قتِالٌ يُحالُ بينك وبين البَيتِ، قال: فإنْ حِيلَ بيني وبينه، فعَلْتُ كما فعل رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم وأنا معه، حين حالت كفَّارُ قُريشٍ بينه وبين البيتِ، أُشهِدُكم أنِّي قد أوجبتُ عُمرةً، فانطلق حتى أتى ذا الحُلَيفةِ فلبَّى بالعمرةِ، ثم قال: إنْ خُلِّيَ سبيلي قضيتُ عُمرَتي، وإن حيلَ بيني وبينه فعَلْتُ كما فعلَ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم وأنا معه، ثم تلا: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ الأحزاب: 21، ثم سار حتى إذا كان بظَهرِ البَيداءِ، قال: ما أمْرُهما إلَّا واحِدٌ، إن حيلَ بيني وبين العُمرةِ حيل بيني وبين الحَجِّ، أُشهِدُكم أنِّي قد أوجَبتُ حَجَّةً مع عمرةٍ، فانطلق حتى ابتاع بقُدَيدٍ هَديًا، ثم طاف لهما طوافًا واحدًا بالبيتِ وبين الصَّفا والمروةِ، ثم لم يحِلَّ منهما حتى حلَّ منهما بحَجَّةٍ يومَ النَّحرِ )) رواه البخاري (1640)، ومسلم (1230) واللفظ له.
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّ في هذه الرِّوايةِ التَّصريحَ مِنِ ابنِ عُمَرَ باكتفاءِ القارِنِ بطوافٍ واحدٍ، وهو الذي طافَه يومَ النَّحْرِ للإفاضةِ، وأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسَلَّم كذلك فَعَلَ ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/376)، ((مرعاة المفاتيح)) للمباركفوري (9/65).
ثانيًا: مِنَ الآثارِ
عن سَلَمَةَ بنِ كُهَيلٍ قال: (حلَفَ طاوس: ما طاف أحدٌ مِن أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم لحَجِّه وعُمْرَتِه إلَّا طوافًا واحدًا) أخرجه عبدالرزاق كما في ((فتح الباري)) لابن حجر (3/579)، وابن أبي شيبة في ((المصنف)) (14530) صَحَّح إسناده ابن حجر، والشَّوْكاني في ((نيل الأوطار)) (5/158).
الفرع الثَّاني: وجوبُ الهَدْيِ على القارِنِ
يجِبُ الهَدْيُ على القارِن قال الشيرازي: (ويجب على القارِنِ دمٌ؛ لأنَّه رُوِيَ ذلك عن ابنِ مَسعودٍ وابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما) ((المهذب)) (1/ 371). وقال ابنُ عبدِ البرِّ: (يتَّفِقان ]أي التمتُّع والقِران[ عند أكثَرِ العلماء في الهدي) ((الاستذكار)) (4/ 93). وقال الشِّنْقيطيُّ: (أجمع من يُعتَدُّ به من أَهْل العِلْم أنَّ القارِنَ يلزَمُه ما يلزم المتمَتِّعَ من الهدي، والصَّوْم عند العجْزِ عن الهَدْيِ، وهذا مذهَبُ عامَّة العلماء؛ منهم الأئمة الأربعة، إلَّا من شذ شذوذًا لا عِبْرَة به، وليس كلُّ خلافٍ جاء معتبرًا إلا خلافًا له وَجْهٌ من النَّظر) ((أضواء البيان)) (5/128) باختصار. وممَّن خالف في ذلك ابنُ حَزْم، فقال: (ولا هَدْيَ على القارنِ- مَكِّيًّا كان أو غيرَ مَكِّيٍّ- حاشا الهديَ الَّذي كان معه عندَ إحرامِه). ((المحلى)) (5/113). ووصَفَ ابنُ حَجَرٍ قولَه بالشُّذوذِ. يُنْظَر: ((فتح الباري)) لابن حجر (4/7). إذا لم يَكُنْ مِن حاضِرِي المسجِدِ الحرامِ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقْهِيَّةِ الأربَعَةِ: الحَنَفيَّة ((المبسوط)) للسرخسي (4/165)، ويُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/174). وحاضِرُو المسجِدِ الحرامِ عند الحَنَفيَّةِ هم أهْلُ المواقيتِ ومَنْ دونها إلى مَكَّةَ. يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (4/154)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/169). ، والمالِكِيَّة ((الكافي)) لابن عَبْدِ البَرِّ (1/384)، ((مواهب الجليل)) للحطاب (4/84). وحاضِرو المسجِدِ الحرامِ عند المالِكِيَّة هم أهلُ مَكَّةَ وطُوًى، ويلحق بذلك المناهِلُ التي لا تُقصَر فيها الصلاةُ. يُنظر: ((الذخيرة)) للقرافي (3/292). ، والشَّافِعِيَّة ((المجموع)) للنووي (7/190-191)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/517). وحاضرو المسجد الحرام عند الشَّافِعِيَّة هم مَن مَسْكَنُهم دون مسافةِ القَصْرِ من الحرَمِ. يُنظر: ((المجموع)) للنووي (7/ 175). ، والحَنابِلَة ((الإنصاف)) للمرداوي (3/ 311)، ويُنظر: ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قُدامة (3/246). وحاضِرو المسجدِ الحرام عند الحَنابِلَة هم مَن مَسْكَنُهم دون مسافَةِ القَصْرِ من آخِرِ الحَرَمِ. يُنْظَر: ((الإنصاف)) للمرداوي (3/ 312).
الأدلَّة:
أوَّلًا: مِنَ الكِتاب
قولُه تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة: 196]
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أ- أنَّ القارِنَ متَمَتِّعٌ بالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ، فهو داخِلٌ في مسمَّى التمتُّعِ في عُرْفِ الصَّحابَةِ رَضِيَ اللهُ عنهم؛ يدلُّ على ذلك ما يلي:
1- عن مروان بن الحكم، قال: (شهدت عثمان، وعليا رضي الله عنهما وعثمان «ينهى عن المتعة، وأن يجمع بينهما، فلما رأى علي أهل بهما، لبيك بعمرة وحجة، قال: ما كنت لأدع سنة النبي صلى الله عليه وسلم لقول أحد) رواه البخاري (1563)، واللفظ له، ومسلم (1223).
2- عن سعيدِ بنِ المسَيِّبِ، قال: ((اختلف عليٌّ وعثمانُ رَضِيَ اللهُ عنهما وهما بعُسْفانَ في المُتعَةِ، فقال عليٌّ: ما تريدُ إلَّا أن تنهى عن أمْرٍ فَعَلَه رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم، فلمَّا رأى ذلك عليٌّ، أهلَّ بهما جميعًا )) رواه البخاري (1569)، ومسلم (1223).
3- عن عِمرانَ بنِ حُصَينٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((تمتَّعَ نبيُّ اللهِ صلَّى الله عليه وسَلَّم وتَمَتَّعْنا معه )) رواه مسلم (1226).
وَجْهُ الدَّلالَةِ:
أنَّه وَصَفَ نُسُكَ النبيِّ صلَّى الله عليه وسَلَّم بالتمتُّعِ مع كونِه صلَّى الله عليه وسَلَّم كان قارنًا ((زاد المعاد)) لابن القَيِّمِ (2/113).
ب- دلَّ ظاهِرُ الآيةِ على أنَّ من تمتَّعَ فعليه الهَدْي إذا لم يكُنْ مِن حاضِري المسجِدِ؛ فإنْ كان فلا دَمَ ((المجموع)) للنوي (7/169).
ثانيًا: أنَّ الهَدْيَ إذا كان واجبًا على المتمَتِّعِ بنَصِّ القرآنِ والسنَّةِ والإجماعِ، فإنَّ القارِنَ أَوْلى لأمرينِ:
الأوَّل: أنَّ فِعْلَ المتَمَتِّع أكثَرُ مِن فِعْلِ القارِنِ، فإذا لَزِمَه الدَّمُ فالقارِنُ أَوْلَى ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/517).
الثَّاني: أنَّه إذا وجب على المُتَمَتِّع لأنَّه جمَعَ بين النُّسُكينِ في وقتِ أحدِهما؛ فلَأَنْ يَجِبَ على القارِنِ- وقد جمَعَ بينهما في إحرامٍ واحِدٍ- أَوْلَى، وقد اندرجَتْ جميعُ أفعالِ العُمْرَةِ في أفعالِ الحَجِّ قال ابنُ عبدِ البرِّ: (من معنى التمتُّع أيضًا القِرانُ عند جماعةٍ من الفقهاءِ؛ لأنَّ القارِنَ يتمَتَّعُ بسقوطِ سَفَرِه الثَّاني مِن بَلَدِه، كما صنع المتمتِّعُ في عمرته إذا حجَّ من عامه ولم ينصَرِفْ إلى بلده، فالتمتُّع والقِران يتَّفقان في هذا المعنى) ((الاستذكار)) (4/93)، ((المجموع)) للنووي (7/190)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/517)، ((الشرح الكبير)) لشمس الدين ابن قُدامة (3/246).

انظر أيضا: